Site icon IMLebanon

عين الدائنين على عائدات الغاز المستقبلية

 

 

وقع لبنان رسمياً في المحظور، فبعد أن طمأن صنّاع القرار الشعب اللبناني على مدى سنوات أنّ الوضع المالي والنقدي بخير، بدأ لبنان الخميس الماضي مباحثات مع صندوق النقد الدولي للبحث في إمكانية إعادة هيكلة الدين اللبناني وسُبل دعم الصندوق للبنان. فما هي إعادة الهيكلة؟ ولماذا اشترى المستثمرون الأجانب السندات اللبنانية مؤخراً بالرغم من مخاطرها المرتفعة؟

 

إعادة هيكلة الديون السيادية هي عملية تلجأ إليها الدول على شفا التعثر، والتي تتجه نحو التخلف عن سداد الديون. تقوم الدولة خلال هذه العملية بالتفاوض مع الدائنين لمحاولة الوصول إلى اتفاق يخفف من عبء الديون على الدولة ويزيد من قدرتها على تخطي الأزمة التي تمر بها.

 

تشمل عملية إعادة هيكلة الديون عادةً واحدة أو أكثر من الإجراءات التالية: تخفيض أسعار الفائدة على الديون، تمديد التواريخ التي يتعيّن فيها سداد السندات، شطب جزء من مدفوعات الفائدة المستحقة، أو عدم سداد جزء من أصل الدين (haircut).

 

إنّ التفاوض لإعادة هيكلة الديون يمكن أن يكون صفقة رابحة لكلا الطرفين، فالدولة المدينة تسعى لتفادي التعثر لأنّ إعلان الإفلاس في عالم الأموال يعني الاستحقاق الحالي والحُكمي لكل الديون والسندات المستقبلية، وبالتالي مواجهة عشرات أو مئات الدعاوى القضائية عالمياً وفرض حظر على أصول الدولة واستيرادها للسلع وقد تصل للعقوبات الدولية.

 

في الجهة المقابلة يشارك الدائنون في المفاوضات على اعتبار أنّ قدرتهم على تحقيق المكاسب (أو الحد من الخسائر) في إعادة الهيكلة (معدل استرداد 50-85%) أعلى بكثير منها في حالة الإفلاس (معدل استرداد 40%).

 

بمجرد أن تحدد الدولة المدينة أنّ إعادة الهيكلة ضرورية، يجب على الدولة تعيين مستشارين ماليين وقانونيين. يحدد المستشارون بالاشتراك مع صندوق النقد الدولي الكمية الإجمالية للتخفيف من عبء الديون المطلوبة لتلافي التعثر عبر حساب إجمالي الموجودات السائلة والمطلوبات على أنواعها. تبعاً لتقديرات حجم الأزمة، تُحدد فئات الديون التي ينبغي إدراجها في مباحثات إعادة الهيكلة، وبالتالي حجم العملية.

 

بعد ذلك، يصبح التحدي هو التوصّل إلى اتفاق مع الدائنين. يكون الاتفاق سهلاً نسبياً إذا كان لدى الدولة ملف دين بسيط وقاعدة دائنين متجانسة (مولدوفا: 2003، سيشيل: 2009) أمّا في حال وجود هيكل دين معقد ودائنين على نطاق واسع ومتنوع (العراق: 2005)، فإنّ التوصّل إلى اتفاق بشأن شروط إعادة هيكلة مقبولة لجميع الدائنين يكون تحدياً كبيراً.

 

عملية المفاوضات شاقة وطويلة (بضعة أشهر) يتخللها شد حبال بين الدولة المدينة ومجموعة الدائنين، فمن جهة هناك خوف ضمني عند الدائنين من عدم دفع الدولة لمستحقات السندات، أو على الأقل عدم الدفع في أي وقت قريب، وفي الجهة المقابلة ترزح الدولة تحت إمكانية مقاضاتها في المحاكم والمحافل الدولية ووضع اليد على حساباتها ومقدراتها خارج البلاد.

 

في حالة سندات اليوروبوند اللبنانية، تُظهر نشرة الإصدار الأساسية للسندات السيادية اللبنانية (Base Prospectus) المنشورة في آذار 2010، أنّ الجمهورية اللبنانية وافقت على أنّ جميع الدعاوى المتعلقة بأي دعوى ذات صلة يجوز النظر فيها وتحديدها في أي محكمة من ولاية نيويورك أو أي محكمة اتحادية أميركية.

 

كما أشارت الى أنّ الحصانة السيادية من قبل الجمهورية اللبنانية بموجب قانون الحصانات السيادية الأميركية لعام 1976 تشمل الممتلكات التي تُستخدم حصراً أو بشكل أساسي لأغراض رسمية (مثل الممتلكات والمباني العقارية الخاصة بالسفارة والقنصلية ومحتوياتها، أو أي ممتلكات عسكرية أو أصول أو ممتلكات أو أصول تابعة للجمهورية مرتبطة بها، أو أي حسابات مصرفية للسفارات أو القنصليات في حدود الأموال التي يُحتفظ بها للمسؤولين السفراء أو القنصليين أو غيرهم من المسؤولين)، ولكن تستثني منها الأملاك ذات الأغراض التجارية.

 

ذكرت نشرة الإصدار الأساسية أيضاً أنه وفقاً للقانون اللبناني، بما في ذلك المادة 860 من قانون اصول المحاكمات المدنية في لبنان، فإنّ ممتلكات الجمهورية وأصولها محصّنة من التنفيذ أو الحجز أو أي إجراءات قانونية أو قضائية أخرى، وبالتالي ينبغي أن يدرك المستثمرون أنّ التنازل عن الحصانة المذكورة في النشرة من المحتمل أن يكون غير فعّال في ما يتعلق بضَم الأصول والممتلكات الموجودة داخل أراضي الجمهورية اللبنانية.

 

مما يعني أنّ الحصانة السيادية على ممتلكات الدولة داخل لبنان محفوظة وخارج لبنان تشمل الممتلكات ذات أغراض رسمية، وهي أيضاً محفوظة. يستثني عقد اليوروبوند اللبناني ممتلكات الدولة اللبنانية الخارجية ذات الأغراض التجارية، وبالتالي في حال تمّت رفع دعوى على الدولة اللبنانية من قبل الدائنين، يعود للمحاكم الأميركية البَت بإمكانية مصادرة أصول الدولة الخارجية التجارية التي قد تشمل الذهب والحسابات المالية والأصول ذات صِلة للدولة اللبنانية كالطائرات والسفن وغيرها.

 

عندما تلجأ الدولة المدينة إلى عدم سداد جزء من أصل الدين (haircut)، يطلب الدائنون شكلاً من أشكال الضمانات المستقبلية لإعادة أصل الدين وتسمّى هذه الضمانات بـ«أدوات استرداد القيمة» (Value Recovery Instruments). فعندما طُلب من المستثمرين قبول الـ haircut على القروض السيادية المستحقة للدول المصدرة للنفط، مثل المكسيك وفنزويلا ونيجيريا، تمّ منح الدائنين المشاركين ضمانات مرتبطة بسعر النفط. تنصّ هذه الضمانات على أنه إذا تجاوز سعر النفط وإنتاج الدولة المدينة في المستقبل حداً معيناً، فسيكون ذلك وكيلاً عادلاً لاستنتاج أنّ درجة من الرخاء قد عادت إلى الدولة المدينة. في هذه الحالة، يكون من الإنصاف أن تبدأ الدولة في سداد مدفوعات للدائنين بناءً على الحقوق المحفوظة في أدوات استرداد القيمة الصادرة وقت إعادة الهيكلة، وبالتالي الحصول على حصة من مردودات النفط.

 

في البلدان التي لم تعتمد على تصدير سلعة واحدة مثل النفط، أصرّ الدائنون على تلقّي أداة (أو ميزة) مرتبطة بمستقبل الناتج المحلي الإجمالي للدولة المدينة. أدرجت كوستاريكا مثل هذه الميزة في إعادة هيكلة الديون في عام 1989، كما أصدرت الأوروغواي في العام 1991 أدوات دُفعت إذا تجاوز السعر القياسي لسلة من صادرات سلع الأوروغواي المستوى المستهدف. أمّا البلدان الأخرى التي أدرجت أداة أو ميزة مرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي في حزم إعادة هيكلة ديونها فهي: بلغاريا (1994) والبوسنة والهرسك (1997) والأرجنتين (2005/2010) واليونان (2012) وأوكرانيا (2015).

 

يتساءل الكثير من اللبنانيين عن شراء بعض المستثمرين الأجانب سندات اليوروبوند المستحقة في آذار بـ 60-65 سنتاً للدولار بالرغم من ازدياد مخاطر تعثّر الدولة اللبنانية. الجواب بكل بساطة أنّ المستثمرين الأجانب سيتفاوضون مع الدولة اللبنانية لإعادة هيكلة الدين لاسترداد 80-85 سنتاً على الدولار، فيحققون خلال أسابيع أرباحاً هائلة تصل إلى 40%، وإذا لم تقبل الدولة اللبنانية سيحاولون الاستحصال على أحكام دولية بمصادرة الأصول الخارجية التجارية للدولة اللبنانية أو فرض أدوات استرداد القيمة، وبالتالي حجز جزء من الإيرادات المستقبلية للغاز اللبناني كما حصل في العديد من الدول التي أعادت هيكلة دينها السيادي.