تسديدها “يُطبِق” على آخر… “أنفاس” الناس
وُجْهتا نظر تُحيطان اليوم بقضية وجوب التزام الدولة اللبنانية بدفع مستحقّاتها باليوروبوندز، فوائد وأصولاً أم لا. لكن وقبل الغوص بهاتين النظريّتين لا بدّ من العودة الى أرقام مصرف لبنان الذي تدعو احتياطاته بالعملة الصعبة الى القلق الشديد. فبحسب “المركزي”، يبلغ رصيد هذا الاحتياطي (النقدي) حالياً نحو 30 مليار دولار أميركي مودعة في مصارف أجنبية.
إذا سلّمنا جدلاً، ان مصرف لبنان تعهد بتسديد مدفوعات كبيرة من الرصيد المذكور خلال العامين 2020 و2021، فعليه أن يأخذ بالاعتبار الامور التالية:
تمويل استيراد النفط والأدوية والقمح، ولواحق مستجدّة مثل المعدّات الطبية وما قد يضاف إلى ذلك نتيجة الطلبات، بالإضافة إلى تسديد ديون الدولة التي ستستحق خلال السنتين المذكورتين.
تُقدّر مستحقّات اليوروبوندز بمبلغ 4.5 مليارات دولار (2020-2021) يُضاف إليها ملياران كمستحقات شهادات الايداع التي يُصدرها مصرف لبنان، وهكذا يتعدّى مجموعها الـ 6 مليارات دولار؛ أما الاستحقاق الأول فيحلّ في آذار المقبل وتبلغ قيمته 1.2 مليار دولار.
استنادا إلى ذلك، وإذا لبّى مصرف لبنان كل الطلب على العملات من احتياطاته، يتوقع الخبراء استنزاف كل موجوداته النقدية بحلول نهاية الـ 2021.
من جيل إلى جيل
في هذا الصدد يُشير مصدر مطّلع الى أنه “يجب عدم الاعتماد على مصرف لبنان للايفاء باليوروبوندز. أما عمليات الـ swap التي يقوم بها البنك المركزي نيابة عن وزارة المالية والتي تقوم على الدفع للدائنين الاجانب مقابل إعطاء المصارف اللبنانية فوائد وتأجيل أساس الدين الى العام 2037، فليست سوى كارثة بما أن النفقات تُحمّل من جيل الى جيل. لهذا السبب يجب التوقف عن الدفع اليوم الى حين ايجاد حلّ للتخلص من هذه الازمة”.
من جهته يوضح خبير الاسواق المالية دان قزي أن” دين الحكومة يتخطى الـ87 مليار دولار. تُضاف اليها حوالى 112 ملياراً لدى البنك المركزي ليبلغ المجموع حوالى 200 مليار. لكن اذا حسمنا قيمة الديون المحتسبة مرّتين ( double counting) مثل اليوروبوندز التي يملكها البنك المركزي فإنّ المجموع يسجّل 170 ملياراً. تكمن مشكلة ديننا الحقيقية في تداول الجزء الأكبر منه أي 94% في السوق المحلّيّة في حين أن 6% منه فقط خارجيّ (لا يتعدّى 10 مليارات دولار)؛ من هنا وبما أن المبلغ ليس كبيراً فهو لا يستدعي إدراج لبنان ضمن خانة الدول المتخلّفة عن تسديد ديونها. ولكن إذا التزم لبنان بتسديد هذه المستحقّات الخارجيّة فهو بذلك يحمي سمعته المالية دولياً الامر الذي سيعود على لبنان بالفائدة عندما تتحسن الاوضاع”.
ثلاثة مخاطر “قاتلة”
ويضيف قزي”أنا شخصيا متخوّف من وقوع لبنان في خانة الدول المتخلّفة عن تسديد دينها الخارجي لما قد يكبّده ذلك من خطر على ذهبنا وأصولنا في الخارج. ففي حال رُفعت دعوى قضائية ضدّ لبنان، فان ذلك سيتم في نيويورك حيث احتياطي الدولة اللبنانية بالذهب وحيث الدولار الحقيقي. وهكذا يكون لبنان أمام 3 مخاطر: فقدان ذهبه أو جزء منه، كما ودائعه وأصوله وعلى رأسها طائرات”الميدل إيست”.
من وجهة نظر قزي فإنّ إعادة هيكلة الدين تجميل أو تخفيف لحالة الافلاس. لكن كي تتم إعادة الجدولة، فذلك يُحتّم مفاوضات وفي التفاوض على كلّ طرف ابراز ما له وما عليه، ولكن بما أن مناعتنا السيادية غير محصّنة، فإنّ موقفنا كدولة ليس قوياً.
ويُضيف: “لو كان ديننا كبيراً لما وجب علينا الدفع ولكننا لا نحتمل المزيد من المشاكل القضائية، فتكفينا الدعوى الاميركية ضد 12 مصرفاً لبنانياً. ثمّ إنّ الدواء والقمح مؤمنان وقد نقل دبلوماسيون مساعي الاتحاد الاوروبي والبنك الدولي في هذا الشأن. لكن في الواقع يسوّق المودعون الكبار والذين يبلغ عددهم 6000 ويملكون 24000 حساب بـ 83 مليار دولار لفكرة عدم وجوب دفع مستحقات اليوروبوندز لأنهم يتخوفون من “الهيركات” الذي سيطال ودائعهم بشكل خاص. ولكن لا بدّ من الاشارة الى أن قص الودائع ان تمّ بناء على معدلات الفائدة التي يتقاضاها هؤلاء، فإن الامر لا ينطبق على بقية الحسابات. بالطبع الامر بحاجة الى دراسة معمّقة”.
وضع السيولة “كتير سلبي”
ليس خفياً أن وضع السيولة الصافي ( Net Cash) لدى مصرف لبنان سلبي كثيراً، وبالتالي فإنّ أي صرف بالعملة النادرة سيجري عمليّاً من ودائع المصارف لدى “المركزي”… أي عمليّاً من ودائع المواطنين مهما كان حجم أموالهم.
وفي مقابل الحجج التي تنادي بضرورة دفع مستحقات لبنان باليوروبوندز، تبرز حجج أكثر تدعم فكرة عدم المخاطرة بالمزيد من عملة البنك المركزي النادرة: أولاها لأنّ الدفع يشكّل تمييزاً لصالح من يستثمر في سندات الخزينة وتغليب هذه المصالح على حساب الاقتصاد الوطني وحاجات الناس الأساسية.
ثمّ فإنّ ذلك يعني تفضيل منفعة المصارف حاملة اليوروبوندز على حساب المودعين الذين قُنّنت ودائعهم ومدّخراتهم وباتت عرضة للـCapital Control. أما ثانيتها فتتمثّل بتفضيل مصالح هؤلاء على حساب القطاع الانتاجي الذي يعاني حصاراً وتجميداً في التسهيلات المصرفية وقطع التمويل عنه فبات مهدداً بالإفلاس التام وتالياً دفع عدداً كبيراً من العاملين نحو هاوية البطالة وما تخلّفه.
أما الحجة الثالثة والاهم فهي فقدان اليوروبوندز 40% من قيمتها. فلماذا نستمر بتسديد ما علينا بالكامل لما فقد نصف قيمته. لهذا السبب، لا بدّ من إعادة جدولة هذا الدين بطريقة تأخذ بالاعتبار هذا الأمر.
في النهاية، يبقى ما سندفعه أكبر مما يتحمّله وضعنا الاقتصادي والاجتماعي والنفسي. من هذا المنطلق، تبدو الحلول من خارج فضاء إعادة هيكلة الديون السيادية امراً مستحيلاً شرط أن تقترن إعادة الهيكلة بخطّة إصلاحية شاملة تتناول الاصلاح المالي بأوجهه كافة بما فيها خدمة الدين. ولحين تحقيق ذلك، فلتنضم الدولة الى حملة… “مش دافعين”.