أصبح استحقاق تسديد سندات «اليوروبوند» المترتبة على لبنان في آذار المقبل (1,2 مليار دولار) الشغل الشاغل للبنانيين، وسط انقسام الآراء على مستوى الاقتصاديين والسياسيين بين مؤيّد لتسديد الدين المتوجب ومعارض له، في انتظار ان تحسم السلطة، ولاسيما منها الحكومة، القرار النهائي على هذا الصعيد.
إقتحمت سندات «اليوروبوند» بقوة خلال الايام الماضية اهتمامات اللبنانيين الذين وجدوا أنفسهم معنيين بالحصول على اكبر مقدار ممكن من المعلومات والشروحات حول هذا الاستحقاق، خصوصاً انهم سيكونون في مرمى «الموجات الحرارية» لأيّ قرار، سواء قضى بالتسديد أو بالامتناع عنه.
لم يعد ملف «اليوروبوند» شأن الخبراء لوحدهم، بل أصبح كل مواطن مضطراً الى الاحاطة به والتدقيق في تفاصيله قدر الامكان، بعدما بات واضحاً أنّ كلفة خيار التسديد أو التخلّف ستدفع مباشرة من اللحم الحي للبلد وشعبه، نتيجة مفاعيل الأزمة الاقتصادية المالية التي كشفت المستور وحوّلت الناس وودائعهم وقوداً لها.
وأصعب ما في اختبار آذار انّ على لبنان الاختيار بين السيئ والأسوأ او بين خيار مرّ وآخر أشد مرارة، بحيث صار المطلوب في هذه اللحظة حصر الخسائر، ليس أكثر، لأنّ تفاديها بات أمراً متعذّراً.
ثم انّ القرار الذي سيصدر، لا يتحمّل أي خطأ في الحسابات، ما يستدعي من جهة إخضاعه الى بحث معمّق ومقاربة علمية وواقعية بمعزل عن العواطف والانفعالات، ومن جهة أخرى اعتماد الشراكة في صنعه، فلا يكون حسمه من مسؤولية رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة او وزير المال او حاكم مصرف لبنان أو أيّ كان بمفرده، بل ينبغي أن يشارك الجميع في تَحمّل مسؤوليته، وان تتخذه الحكومة مجتمعة في ظل أوسع تغطية سياسية ووطنية ممكنة، إذ انّ الشرط الاساسي للتخفيف من أضرار القرار المُفترض إنما يكمن في تأمين أكبر توافق داخلي حوله وعدم تحويله مادة خلاف إضافية.
ويبدو أنّ كثيرين أصبحوا من المتحمّسين لكسر «التابوهات المالية» التي تَحكّمت بالمرحلة السابقة واستثمار الهامش المُمتد بين حَدّي التعثر والافلاس، على قاعدة التمييز بين الاثنين وعدم تَهيّب الأخذ بخيار التعثر في السداد، انطلاقاً من أنه مبرّر بكامله وسط شح الدولار وأنّ دولاً كثيرة خاضت تجربته وتجاوَزتها بعد حين.
والأرجح أنّ أي قرار تتخذه حكومة دياب بالامتناع عن تسديد استحقاق آذار على حساب ودائع المواطنين، سيساهم في زيادة منسوب القبول الشعبي بها وتقليص الهوة التي تفصلها عن شريحة من الناس حجبت الثقة عنها من اللحظة الاولى لولادتها.
وبينما نُقِل سابقاً عن الرئيس حسان دياب تأكيده أنه يرفض أن تسجل على حكومته سابقة الاخلال بالموجبات المالية للدولة، يوضِح المطّلعون على حقيقة موقفه انّ ما يعارضه دياب تحديداً هو إعلان لبنان دولة مفلسة، في النظر الى التداعيات الوخيمة التي سيرتّبها مثل هذا الاعلان. وبالتالي، فهو منفتح على مناقشة كل الاحتمالات الأخرى المصنّفة خارج محظور الافلاس.
ويشير هؤلاء الى أنّ مسألة التسديد أو الامتناع، ستكون موضع بحث دقيق ضمن الفترة الممتدة حتى نهاية الشهر الحالي لاتخاذ القرار المناسب الذي ينسجم مع مقتضيات المصلحة العامة.
ويؤكد العارفون أنّ هناك ميلاً متزايداً لدى بعض الأوساط الرسمية نحو تأجيل تسديد سندات «اليوروبوندز» المتوجبة في آذار، على قاعدة إعادة جدولة الديون بعد التفاوض والتفاهم مع الجهات الدائنة، خصوصاً تلك الاجنبية، لكن لا شيء نهائياً بعد في انتظار الانتهاء من الدرس الوافي لجميع الخيارات وكلفة كل منها.
ويشدد هؤلاء على انّ المطلوب خطة متكاملة للتعامل مع كل استحقاقات الدين لسنة 2020 وعدم حصرها في سندات آذار، مُنبّهين الى ان لا جدوى من تسديد الدفعة المقبلة ثم التعثّر في الدفعات اللاحقة، لأنّ النتيجة الاجمالية ستكون واحدة، وبالتالي ستذهب الأموال المسددة هباء منثوراً وكأنها لم تكن.
وفي حين يملك المؤيدون للدفع والرافضون له ما يكفي من الحجج لتبرير طرحهم، يعتبر مصدر سياسي من أصحاب الخبرة المصرفية انّ المشكلة الأصعب حالياً تكمن في المهلة الضيقة التي تفصل لبنان عن استحقاق آذار، لافتاً الى انه لو تَشكّلت الحكومة ونالت الثقة قبل شهرين على سبيل المثال لكان هامش تفاوضها مع الدائنين الدوليين أكبر وأجدى، بينما ستفاوض الآن تحت الضغط اذا قررت ان تطرق هذا الباب.
ويلفت المصدر الى انّ كلّاً من التسديد والتخلف سيؤدي الى عوارض مؤلمة، اذ انّ الدفع سيتسبّب في مزيد من القضم للودائع المترنحة وسيهدد بتراجع القدرة على استيراد المواد الاساسية، اضافة الى انه سيشكّل من الناحية الاخلاقية استفزازاً للمودعين الذين لن يتقبلوا استخدام مليار و200 مليون دولار من ودائعهم المحتجزة للايفاء بالدين المستحق فيما سحوباتهم من الدولار تتعرّض الى التقنين المصرفي القاسي. امّا عدم الدفع فسيرتّب بدوره، وفق المصدر، تَبعات كبرى من بينها خسارة الصدقية والسمعة اللتين حرص لبنان على عدم التفريط بهما في الاسواق المالية، وبالتالي الانعدام الكلي لثقة المجتمع الدولي فيه، مع ما سيواكب ذلك من تجميد تام للمساعدات والقروض الدولية المحتملة.
ويحذّر المصدر إيّاه من مخاطر التخلف عن الدفع ثم الذهاب الى التفاوض، لأنّ مثل هذا السلوك سيضاعف حجم الآثار السلبية، لافتاً الى انّ السيناريو الاقل ضرراً يتمثّل في إجراء المفاوضات مع حاملي السندات ثم وقف التسديد على أساس منظّم وواضح.
ويشير المصدر السياسي الخبير في الشأن المصرفي الى انه اذا استطاعت الحكومة إنجاز تفاهم مُسبق بينها وبين الجهات المعنية على اعادة الجدولة قبل ان يحين موعد سداد استحقاق آذار، فسيكون ذلك ممتازاً. اما اذا تبيّن انّ الوقت لم يعد يسمح بالتفاوض المدروس، ومن موقع مريح، فربما تقتضي مصلحة لبنان عندها سداد الدفعة المستحقة الشهر المقبل فقط، بغية إنقاذ صدقيته ورصيده المعنوي، على أن يباشر بعد ذلك الحوار مع حاملي سندات اليوروبوند، بعيداً من التوتر والتشنج، حول تأجيل استحقاقي نيسان وحزيران المقبلين وفق جدولة جديدة تراعي أولويات لبنان في هذه المرحلة.
ويعتبر المصدر انّ بالإمكان ايضاً، لتخفيف الأعباء، تجزئة دفعة الشهر المقبل، في حال تبيّن انّ التسديد شرّ لا بد منه، بحيث تعطى الاولوية حصراً للايفاء بالجزء الذي يخصّ دائنين أجانب من شركات ومصارف، بينما يمكن التوصّل مع المصارف اللبنانية الى مخرج معيّن للسندات المتعلقة بها، محذّراً من انّ محاولة فرض أمر واقع قسري على الدائنين الدوليين قد يدفعهم الى الاستعانة بمكاتب محاماة عالمية للحجز على ممتلكات تعود الى الدولة اللبنانية.
باختصار، يبدو لبنان عالقاً بين مطرقة دفع السندات وسندان الامتناع عن تسديدها، فهل ستتمكن حكومة دياب من النجاح في أول امتحاناتها وإصدار القرار الذي يضع مصلحة اللبنانيين فوق كل اعتبار؟