الحكومة مُطالبة بتنفيذ الإصلاحات المنصوص عليها في ورقة بعبدا
ككلّ ملف في لبنان حيث الإنقسام عمودي وحيث كل طرف يُخوّن الأخر، أخذ ملف إستحقاقات الدولة من سندات الخزينة بالدولار الأميركي منحى إنقساميًا مع إصطفاف فريق مع دفع إستحقاق أذار وفريق ضدّ دفع الإستحقاق. هذا الإنقسام تفاقم مع وجود عوامل سياسية إضافية (داخلية وخارجية) جعلت من مهمة الحكومة صعبة لدرجة أن أحد مصادرها صرّح لوكالة أجنبية أنها في صدد تحضير طلب مساعدة من صندوق النقد الدولي لإعادة هيكلة الدين العام اللبناني.
من البديهي القول أن الحكومة إستعجلت هذا الطلب (إذا ما ثبت أنه طلب مساعدة مالية وليس طلب مساعدة تقنية فقط)، فالإجراءات الداخلية الواجب القيام بها عديدة ولا تحتاج الحكومة إلى صندوق النقد الدولي للقول ما هي هذه الإجراءات ولا كيفية تطبيقها. وهنا يُطرح السؤال عن الأسباب التي دفعت بالحكومة إلى طلب مساعدة صندوق النقد الدولي؟
إذا كنا من أصحاب النوايا السيئة لقلنا أن الحكومة لا تمتلك أي خطة وبالتالي هي عاجزة عن مواجهة المرحلة المُقبلة، لكن الكفاءات الموجودة فيها كبيرة! لماذا إذًا لا تقوم بوضع الخطّة وتنفيذها؟ هذا الإستنتاج يوصلنا إلى طرح أخر وهو أن التجاذبات السياسية تمنع على هذه الحكومة القيام بأية إصلاحات وبالتالي فهي تقوم بطلب مُساعدة خارجية لفرض الإصلاحات.
الخطّة التي من المفروض تنفيذها تنص قبل كل شيء على إستعادة الثقة، وهذه الأخيرة فُقدت لسببين أساسيين: الأول تفشّي الفساد والثاني عجز القضاء عن مُجازاة الفاسدين. لذا تنصّ الخطوة الأولى للحكومة على رفع مشروع قانون إستقلالية القضاء على شكل قانون مُعجّل مُكرّر إلى المجلس النيابي وذلك قبل القيام بالتشكيلات القضائية على أن يتمّ إسناد ملف إستعادة الأموال المنهوبة ومحاسبة الأشخاص المُتهمين بالفساد إلى القضاء وذلك إستنادًا إلى القانون 44/2015 والذي يُشكّل أداة قانونية واضحة تُحدّد بدقة ما هي الأموال غير المشروعة (المادة 1 و2 من القانون). وبالتالي يُمكن للقضاء محاسبة الجميع بمن فيهم من يتمتّع بالحصانات.
بالتوازي تضع الحكومة خطّة عملية واضحة لمحاربة الفساد في أجهزة الدولة أينما وُجدت، وهنا نُعطي مثال المرفأ الذي يُشكّل 70% من إجمالي التبادل التجاري مع العالم، حيث يُمكن للحكومة وضع 100 عنصر من الجيش اللبناني تحت إشراف قاض وذلك لمراقبة التهريب الجمركي في المرفأ. هذا الإجراء وعلى الرغم من بساطته، كفيل بسحق الفساد من المرفأ.
الخطوة الثانية للحكومة تنصّ على وضع جدول بإستحقاقات وإيرادات الدولة بحسب تاريخ إستحقاقها وذلك لمعرفة قيمة النقص في الأموال. هذا الأمر هو شرط أساسي لأنه يُشكّل الأساس لأي خطوة أخرى تقوم بها الحكومة بما فيها طلب مُساعدة صندوق النقد الدولي.
ثم تبدأ عملية البحث على مصادر لتمويل هذا النقص من خلال الإجراءات الداخلية مثل محاربة الفساد في المرفأ، الأملاك البحرية والنهرية وسكك الحديد، التهرّب الضريبي، إلغاء المؤسسات غير المُجدية، مكننة كل أجهزة الدولة، وغيرها من الإجراءات التي تطال موارد تحرم الدوّلة من مداخيل إضافية أو تزيد عليها أعباء غير مُجدية.
على هذا الصعيد، نرى أن عملية إحصاء وإعادة تقييم أملاك الدولة هو أمر ضروري، وهذا الأمر يجب أن يتم بالتزامن مع إعادة دراسة واضحة وشفافة للقطاع العام وتحديد الهدر فيه وإجراء الإصلاحات اللازمة. أيضًا نرى أن العمل على زيادة الحوكمة الرشيدة في القطاع العام هو أمر ضروري وعلى رأسها نشر أرقام المالية العامة بالكامل ومُحدّثة.
من جهة أخرى، يتوجب القيام بمسح للقطاعات الإنتاجية في الدولة اللبنانية وتشمل الشركات والعاملين فيها في الصناعة، الزراعة والخدمات. هذا المسح سيسمح بمعرفة القدرة الإنتاجية للبنان وبالتالي وضع سياسة إقتصادية واضحة للأعوام القادمة.
كل ما سبق من إجراءات سيسمح للدوّلة اللبنانية بوضع تصوّر أوّلي للخطة التي يتوجّب إتباعها لمواجهة الإستحقاقات المالية القادمة.
وقد يقول البعض (وهذا حقّ) أن إستحقاق أذار يأتي بعد أربعة أسابيع، ولا يُمكن للحكومة القيام بكل هذا العمل قبل ذلك الوقت. من هذا المُنطلق نرى أن دفع إستحقاق أذار هو شبه إلزامي نظرًا إلى عدم دفع هذا الإستحقاق يعني بكل بساطة أن لبنان وضع رقبته تحت سكين المقرضين الخارجيين الذين لن يتواروا عن وضع اليد على الأصول اللبنانية في الخارج بما فيها الذهب ولكن أيضًا البواخر التي تؤمّن للبنان المواد الغذائية والأولية.
خيار الدفع أصبح بالنسبة للبعض إتهامات بالتخوين! ويا ليتهم يقولون للشعب اللبناني ماذا سيحصل إذا لم ندفع وما هي الخطوات التي يتوجّب القيام بها قبل أذار!
يقول البعض أن خيار عدم الدفع لم يعد يؤثّر على وضع لبنان ولا على تصنيفه، وبدل دفع إستحقاقات الدولة من الدين العام، يتوجّب على الحكومة تخصيص هذه الأموال لشراء المواد الغذائية والأولية! وهنا نرى أن هناك مزج واضح من قبل هؤلاء بين أموال الدولة وأموال مصرف لبنان (التي يحوي قسم منها أموال المودعين) وأموال القطاع الخاص. فالدين العام هو على كاهل الحكومة والذي تقوم بسداده من خلال الضرائب والرسوم على المواطنين والشركات. ودور مصرف لبنان أو المصارف التجارية هو إيجاد التمويل لهذا الدين في ظل غياب إيرادات كافية على أن يتمّ إحتسابه في الدين العام الذي سينقصّ بنفس قيمة المبلغ المدفوع تقريبًا، نظرًا إلى أن القسم الأكبر من إستحقاق أذار هو إستحقاق رأسمال.
أما شراء المواد الغذائية فتمويله يأتي من المُستهلك، إلا أن المُشكلة هي في تأمين الدولارات لشراء هذه المواد. وهنا يمزج أصحاب فكرة «عدم دفع الإستحقاق» بين أموال مصرف لبنان وأموال المصارف وأموال الدولة وأموال المودعين. وبحسب هؤلاء، يجب إستخدام الدولارات لشراء المواد الغذائية بدل دفع الإستحقاق.
لكن السؤال الذي يتوجّب على الحكومة الجواب عليه، هو عن كلفة كل خيار من الخيارين. وبإعتقادنا لا تتملك الحكومة جوابًا على ذلك، لذا ستقوم بطلب المُساعدة التقنية من صندوق النقد الدولي لمعرفة الكلفة في كل حالة.
إننا إذ لا نتمسكّ بخيار دفع مستحقات أذار، إلا أننا نرى أن عدم دفع هذه المُستحقات من دون المفاوضات مع المقرضين (ولا نعلم كيف سيتمّ التعرّف إليهم في سوق السندات!)، سيؤدّي حكمًا إلى تداعيات إجتماعية قد تصل إلى عدم حصول لبنان على مواد غذائية إلا من خلال إعاشات تؤمّنها دول مثل فرنسا وغيرها من الدول!
في كل الأحوال، الواقع الحالي يفرض على الحكومة البدء بتنفيذ خطّة ماكنزي أو أي خطة إقتصادية أخرى تسمح بإستعادة النشاط الإقتصادي وبالتالي رفع فائض الميزان الأولي بشكل يُغطّي خدمة الدين العام مما يُشكّل نقطة التحوّل في إستعادة السيطرة المالية على الدين العام. هذه السيطرة يُمكن إستكمالها بعملية خفض الفوائد بشكل هيكلي (نظرًا إلى وجود قيود على حركة رؤوس الأموال) مع دفع المُستحقات المالية لهذا العام من خلال عمليات الـ«swaps » وذلك للسماح للحكومة بالقيام بالإصلاحات التي تمتص الفوضى المالية القائمة.
كل ما سبق ذكره، لا يخفي حقيقة ناصعة أن الوضع الإقتصادي والمالي المأساوي الذي يعيشه لبنان منذ فترة طويلة، ظهر إلى العلن نتيجة الضغوطات السياسية الخارجية على لبنان. وبالتالي لا يُمكن الخروج من الأزمة الحالية إلا من خلال إيجاد حلّ للعقد السياسية القائمة مع المجتمع الدولي وبالتحديد مع الولايات المُتحدة الأميركية التي تمتلك الدولار، نقطة ضعف النموذج الإقتصادي اللبناني.