أثناء النقاش حول العراق في مجلس الأمن، في شباط (فبراير) من عام 2003، انتقص وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دو فيلبان من خبرة الأميركان، بالنظر إلى عمر بلادهم القصير مقارنة بأوروبا، داعياً إياهم إلى عدم المضي قدماً في قرار الحرب، كان ذلك في معرض رده على خطاب نظيره الأميركي كولن باول الذي ردّ على هذا الزعم، قائلاً: «إن 200 سنة كانت كافية لأميركا لتتسيد العالم، تاركة الحديث عن التاريخ لكم»! بغض النظر عن باول وخطابه، المهم تحديداً هو إدراك تلك الحقيقة التي تفيد بأن الإرادة الأميركية هي التي تحدد الهدف وطريقة التصويب ووقته، وعلى الباغي تدور الدوائر.
باستثناء بريطانيا التي ترتبط بعلاقة خاصة مع الأميركان بحسب ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأشهر، فإن أوروبا لا تمل من تكرار تجربة الخروج من العباءة الأميركية، تحاول أن تثبت لنفسها والعالم بأنها «هنا»، من دون جدوى.
في سبعينات القرن الماضي، قررت ألمانيا وفرنسا استحداث مصرف مالي ينافس البنك الدولي الذي تسيطر عليه أميركا وبريطانيا، واتفقتا مع شاه إيران محمد رضا بهلوي على دعم مشروعه للطاقة النووية، الأمر الذي دفع التحالف الأنغلوأميركي إلى التدخل، وتم بالفعل ضرب العصفورين – المصرف الأوروبي والنووي الإيراني – بحجر الخميني الذي أطاح الشاه، ونسف فكرة التحدي الاقتصادي الأوروبي من أساسها.
مناسبة ذكر هذا الحدث، هي ما يدور حالياً في أروقة السياسة الأوروبية في رعاية ألمانيا وفرنسا أيضاً، حول عزمهما إنشاء كيان خاص بالتعامل مع إيران، يلتف على العقوبات الأميركية في مرحلتها الثانية والأقسى التي تنطلق في 5 نوفمبر المقبل. أما الشاهد، فإنه الفشل المحتم لهذا الكيان، ما دام دونالد ترامب الذي هدد الجهات التي ستستمر في علاقاتها الاقتصادية بالإيرانيين «بمواجهة عواقب وخيمة»، يشم هواءه في حديقة البيت الأبيض.
في تقديري، يعتقد الأوروبيون «المتمردون» بقيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن وجود ترامب بشعبيته المتدنية أوروبياً، ليس أكثر من مجرد فرصة تدعم نوايا الهرب إلى الأمام من تداعيات التوجه «الترامبي» في التخلي عن العولمة لمصلحة القومية الوطنية، بخاصة أن أصوات اليمين الأوروبي تتعالى، محمّلة الديموقراطية وحكومات بلدانهم المسؤولية عن العمليات الإرهابية في أرضهم، بسبب فتح الباب على مصرعيه أمام المهاجرين الذين اقتسموا مع السكان الأصليين فرص العمل، إضافة إلى ذلك.
في ما يبدو، ماكرون وبقية حرس ديموقراطية «الأنا» والكيل بمكيالين الذين يحاولون دعم النظام الإيراني المجرم على حساب شعبه والمنطقة برمتها، مدعوون هذه المرة إلى الأخذ بنصيحة دومينيك دو فيلبان السالفة، بالعودة إلى التاريخ، ثم الهرولة خلف حكم السيدة أميركا، بدل الانجرار خلف غرور المواقف السياسية التي لن تسمن أنظمتهم التي تتداول الحكم بين أحزابها الهرمة، ومن المؤكد أنها لن تغنيهم من التبعية للأميركان، في ظل الجموح الروسي، والصيني الآتي بقوة.
هل من الممكن أن يعجّل الكيان الاقتصادي الأوروبي المزمعة إقامته بانهيار السلطة الحاكمة في إيران إذًا؟ لا أعتقد ذلك، فمن جهة اقتصادية بحت، رأس المال «الجبان»، والذي تمثله هنا الشركات الأوروبية، لن يغامر من أجل عيون الملالي أو الساسة الأوروبيين، وأغلب الظن أنه سيشكل وسيلة الضغط الأهم بيد الأميركان على حكوماتهم، للتخلي عن هذه الفكرة أولاً، ثم التحول السريع إلى سكة قطار القومية القديم المتجدد، إذا ما أرادوا المحافظة على نفوذهم من الانكماش، أما إيران، أو حصان طروادة الذي يحاولون به اختراق حصن الدولار المتين، فإنها رهانهم الخاسر ولا شك، وربما أنها رصاصة النهاية التي ستنطلق باتجاههم، معلنة موت الغطرسة الأوروبية الرحيم.