تستعد فرنسا لاختيار رئيسها الجديد بعد ثلاثة ايام، وهذا شيء طبيعي، الا ان اوروبا ما زالت تتعافى من تحولات بنيوية جرت في العام ٢٠١٦، سيما تصويت المملكة المتحدة على الخروج من اوروبا (Brexit) وانتخاب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الاميركية.
الامر الاهم في الموضوع ان احدى اهم دول الاتحاد الاوروبي قد يديرها زعيم يميني متطرف او شخص ليس لديه اي حزب وراءه. وعلى اي حال فإن النتيجة ستكون كارثية ومدمرة ليس فقط لاوروبا انما ستؤذي، وبشكل جدي، العالم اجمع.
وقبل بضعة ايام من التصويت الحاسم يبدو ان نظرة المتنافسين مختلفة جذريًا بالنسبة لفرنسا وللاتحاد الاوروبي فبينما تريد لوبان طرح ضوابط حدودية وضريبة على الواردات قائلة ان العولمة والعالم المفتوح لم يعد يخدم مصالح الفرنسيين، يقول ماكرون ان خطط منافسته ستؤدي الى كارثة اقتصادية. لكن يبدو ان الرهانات عالية لا سيما اذا ما امتنع الناخبون اليساريون واليمينيون عن التصويت.
الأزمة ستكون معقدة، سيما اذا ما وصل اليمين المتطرف بزعامة لوبان الى الحكم بما يعني التصويت على الخروج من الاتحاد وبالتالي حكما انهاء عملية بدأت تتحرك صعودًا ونزولًا رهينة للتكهنات. والأمر جدي سيما وان فرنسا تعد من اكبر واهم اقتصادات دول الاتحاد الاوروبية واحد الاعضاء المؤسسين للاتحاد ولاعباً رئيسياً في السياسات الاوروبية وتؤثر بشدة في القرارات الاقتصادية والاجتماعية.
وبالنظر الى هذه الاهمية الكبيرة فإن اي تغيير في رئاسة البلاد في العام ٢٠١٧ سيكون له بلا شك اثر قوي على اليورو وما اذا كان سيتراجع امام العملات العالمية او يقوى بشكل اكبر في السنوات القادمة. اضف الى ذلك ان الاقتصاد الفرنسي يمثل نحو ١٥ بالمائة من ناتج اوروبا، والاستثمارات المباشرة في فرنسا في العام ٢٠١٥ بلغت ٤٤ مليون دولار مقابل ٥٣٢ مليون دولار في اوروبا ككل.
سياسياً، تلعب فرنسا دورا هاما في السياسة الاوروبية وينتخب الفرنسيون ٧٤ مقعدًا من اصل ٧٥١ مقعدًا في البرلمان الاوروبي اي حوالي ١٠ بالمائة. ومن المعروف ان اوروبا سوق كبير لنحو ٥٠٠ مليون مستهلك، وقد شابتها المصائب المالية المزمنة الناجمة عن التركيبة السياسية والتي اثرت بشكل كبير على العملة الموحدة. مشكلة اليونان المالية ومخاطر الأزمات في العديد من دول منطقة اليورو جنبًا الى جنب مع البطء في الاقتصاد ونموه اضطر البنك المركزي الاوروبي الى خفض الفوائد لتصبح سلبية ووضع برنامج التسيير الكمي والذي اثر بشكل سلبي على تدفق الاموال الى داخل منطقة اليورو. اضف الى ذلك تراجع في العملة نتيجة تباطؤ النمو والاستثمار والذي أودى بالعملة الموحدة الى حد التكافؤ مقابل الدولار.
يثير التطلع بجدية الى الانتخابات الفرنسية جملة تساؤلات حول قضايا رئيسية بما في ذلك كيفية معالجة معدلات البطالة المرتفعة، كذلك علاقات البلاد ودورها في الاتحاد الاوروبي ومسائل اخرى سيما اصلاح نظام الرعاية الاجتماعية والهجرة والدفاع والسياسة الصناعية.
وتبدو طروحات المتقدمين الى المرحلة الثانية مختلفة تماما، فيما تدعو لوبان الى طروحات اقتصادية حمائية سيما تدخل الدولة في الاقتصاد من اجل تشجيع الصناعات الوطنية والحد من البيروقراطية وخفض الاعتماد على اعانات الرعاية الاجتماعية واستعادة السيطرة على الحدود واجراء استفتاء لاستعادة دور الفرنك الفرنسي الى جانب اليورو، والعودة الى ما يسمّى نظام الـ snake والذي كانت تستخدمه الجماعة الاقتصادية الاوروبية في السبعينات من القرن السابق. هذا الامر جعلها قوية بين ناخبي الطبقة العاملة الفرنسية والذين عانوا من اثار ارتفاع الضرائب وارتفاع معدل البطالة.
في المقابل، يماشي ماكرون بسياسته تعهدات اكثر مرونة سيما سن التقاعد وبدلات بعض العمال. ويدعو الى فرنسا قوية داخل منطقة اليورو. هذا من حيث السياسة الداخلية، اما المشهد العالمي وقضاياه فتأخذ حيزًا جديراً بالاهتمام، سيما التعامل مع روسيا وتخفيف العقوبات ضدها.
هذه العقوبات تكلف اوروبا وروسيا اكثر من ١٠٠ مليار دولار خسارة في التجارة والاعمال وتشمل زيادة التجارة معها وخفض حاجة الانفاق على الدفاع والذي ولدته عملية تصاعد التوتر مع جارتها في اوروبا الشرقية.
هناك احتمال واحد للأثر المحتمل على اليورو بعد تغيير السلطة في فرنسا، والذي يمكن ان يعيد ترتيب الامور، ويؤدي الى ارتفاع اليورو اذا ما استطاع الرئيس المنتخب تدعيم السياسة الاقتصادية والنمو وتحقيق معدلات البطالة.
هذه الانجازات تبدو أصعب بكثير من النوايا في ظل تراجع اقتصادي اوروبي، وأزمات مالية شملت العديد من دول الاتحاد. اما احتمال تراجعه فالامر جلي مع انتخاب لوبان لذلك قد يرتفع لفترة قليلة ويستعيد وضعيته الآنية رغم جميع التفاؤلات بتغيير ممكن في فرنسا والاتحاد عمومًا.
والسؤال المطروح : ما الذي حصل بعد اسبوع كانت فيه العملة الاوروبية تعتبر الاخطر على كوكب الارض لتصبح فجأة المفضلة لكل انسان ومستثمر حتى ان بعض الشركات أوصت بشرائه سيما Nomura Holding Inc . ولا يفسّر هذا الامر سوى عامل واحد هو بيئة سياسية اكثر استقرارا في اوروبا، علما ان العديد من المستثمرين اكثر اعتدالا وسوف ينتظرون حتى بعد الجولة الثانية من الانتخابات.
اما بالنسبة الى الاسواق العالمية، يبدو ان حالة من الارتياح سادت يوم الاثنين الذي أعقب الجولة الاولى من الانتخابات وساعد في تهدئة المخاوف من ان البلاد ستغادر عملة اليورو وارتفعت الاسهم الاوروبية الى اقصى مستوياتها خلال ١٧ شهرًا واستعاد اليورو بعض مكاسبه. وحسب الاحصاءات ان ماكرون سوف يفوز على لوبان بفارق كبير قد يصل الى ٦٢ مقابل ٣٨ بالمائة حسب آخر احصاءات لـ Ipsos.
اليوم المفصلي هو الاحد المقبل، واذا ما صدقت الاحصاءات فإن ذلك سوف يعطي بعض الثقة لليورو لكن لفترة قصيرة، كون مختلف المؤشرات الاقتصادية الفرنسية خصوصًا والاوروبية عمومًا ما زالت تترنّح في موجات من البطالة وبطء النمو والأزمات المصرفية المالية، بما يعني انها فترة وجيزة سوف يعود بعدها السوق العالمي الى حالته السابقة واليورو الى تراجع لا محال.