Site icon IMLebanon

أوروبا أمام إصلاح الإعوجاج أو الوقوع في فخّه

 

حانَ للدّول الأوروبيّة أن تتحمَّل مسؤوليّة سياساتها في الشرق الأوسط أوّلاً، عبر الإقرار بما أسفرَت عنه هذه السّياسات، وثانياً، عبر أخذِ مواقف الرئيس دونالد ترامب ببالغ الجديّة بعيداً عن نزعة الاستخفاف والفوقيّة.

الوحدة الأوروبّية في ممانعة نهجِ ترامب نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن تخدُم الاتفاق النووي الذي وقَّعته ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا والصّين، بل إنّها تُهدِّد مصير هذا الاتفاق.

السياسة الدفاعيّة التي باتَت النكهة المفضّلة لدى الأوروبيّين إنّما هي خاطئة وخطيرة تضعهم في خندقِ الدفاع التّلقائي عن النظام الإيراني مهما فعلَ داخلياً وإقليمياً و»باليستياً».

الاستمرار في أنماط التنصّل من المسؤوليّة التاريخيّة التي رافَقَت وتُرافِق الاتفاق النووي وتداعِياته الإقليميّة سيُسفِر عن تمزيق الاتفاقيّة سيّما إذا استمرَّ الاستهتار بترامب والتّعالي الخفيّ عليه. فالرئيس الأميركي قد وضَعَ القيادات الأوروربّية قيد المراقبة والمحاسبة لفترة أربعة أشهر كي تُراجِع مواقفها الحاضنة لسياسات الجمهوريّة الإسلامية الإيرانية وتُصلِّح الاعوجاجَ فيها.

من المفيد أن ينظر الأوروبّيون إلى فترة اختبار حسنِ النيّة هذه كفرصةٍ للتأثير بحزمٍ وإيجابيّة على صنّاع القرار في طهران بأبعد من مجرَّد «تحسين السلوك». فالمسألة أكثر جدّية من مجرَّد عنوان عائم، وهي تتطلَّب من الأوروبّيين مراجعة النفس بكلّ صِدقٍ صيانةً للمصالح البعيدة المدى وكي يَستعيد الأوروبّيون بعضَ الصدقيّة.

العبءُ يقَع على أكتاف وزيرة خارجيّة الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، منسّقةِ لجنة الإشراف المشتركة على الاتفاق النووي مع إيران الذي وقّعته الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن – الولايات المتّحدة وروسيا والصّين وبريطانيا وفرنسا – زائد ألمانيا.

مشاوراتُها داخل البيت الأوروبي يجب ألّا تَنطلق من مبدأ «الرَّد» على ترامب الذي طالب الأوروبّيين بإصلاح «عيوبٍ جسيمة» في الاتفاق النووي وبالكفّ عن غضّ النظر عن تدخّلات إيران العسكرية والأمنية في الجغرافيا العربيّة. فذريعة «الفصل» بين النّووي والإقليمي باتت باليةً وهي تفضَح الازدواجيّة الأوروبيّة.

قبل موغيريني، وقَعَت كاثرين آشتون في غرام الديبلوماسيّة المُبتسمة التي يُتقنها جيّداً وزير خارجية إيران محمّد جواد ظريف، فكانت منسّقة السياسات الخارجية الأوروبّية أكثرَ الأطراف الأوروبّية حماسةً وتشوّقاً لإبرام الاتفاق النووي مع إيران. هذا علماً أنّ الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وفريقه كانوا في طليعة الجاهزين لتلبية المطالب الإيرانية، وعلى رأسها فَصلُ السّياسات الإيرانية الإقليميّة عن ملفّ المفاوضات النووية.

وللتاريخ، إنّ ما فعلته إدارة أوباما سويّةً مع الحكومات البريطانيّة والألمانية والفرنسية (إلى جانب روسيا والصين) هو التضحية بمبدأ عدم جواز التّدخل في الشؤون الداخليّة للدول الأخرى وهو شرعنةُ التدخّلِ العسكري الإيراني خارج حدودها.

فلقد رضَخَ الأوروبّيون و«الأوباميّون» أمامَ إصرارٍ إيرانيّ على إبطالِ قراراتٍ لمجلس الأمن الدولي تضمَّنت فقراتٍ تُحظِّر على إيران، بموجب الفصل السابع من الميثاق، تصديرَ الأسلحة والذخيرة خارج حدودها وتمنعُها من تمويل وتسليح الميليشيات أو المنظّمات التابعة لها خارج حدودها.

لذلك، ما فعَله الأوروبّيون وإدارة أوباما بإبطال تلك القرارات يَصبو إلى مرتبةِ شرعنةِ التدخّل الإيراني في سوريا عبر «الحرس الثوري» وكافة التنظيمات والميليشيات.

أنْ يتظاهروا عكس ذلك، إنّما يَدفنون بذلك رؤوسَهم في الرمال. ما فعلوه هو أنّهم قدّموا إلى طهران الشرعنة والتمويل، وذلك عندما كافأوها بإبطال قرارات دوليّة فرَضَت عليها الحظرَ العسكري والعقوبات الاقتصادية.

إنّها هديّة العمر التي شارَك الأوروبّيون جذرياً في تقديمها إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية وهم يَرفَعون راية صيانة الاتفاق النووي وضرورةَ «الفصل» بينه وبين التدخّلات الإيرانية في الدول العربيّة، وفي المقدّمة سوريا.

فلا حاجة لتَباكي الأوروبّيين على المأساة الإنسانية في سوريا التي كانت بالتأكيد إحدى ضحايا الاتفاق النووي مع إيران، بتوقيع أوروبي. ولا ضرورة للاختباء وراء عنوان «تغيير السلوك» الإيراني فيما لغة المصالح التجاريّة تَعلو على كلّ اعتبار آخَر وتفضَح الازدواجيّة.

مجموعة الدول الموقّعة على الاتفاق النووي 5+1 منَعَت الدول الخليجيّة العربيّة من الاطّلاع على مفاوضات ومسارات ولغة التفاهمات في الصفقة التي زعَمت أنّها منصَبّة حصراً على الناحية النووية. رفضَت دول 5+1 تلبية طلبِ السعودية أن تكون مراقباً أو مجرّد أن تتمَّ إحاطتُها بما يحدُث من مفاوضات مع جارها الإيراني. وكان الأوروبّيون أكثرَ وأشرسَ الرافضين.

الديبلوماسيّةُ الإيرانية المحنّكة نجَحَت في فَرض «الفصل» بين الإقليمي والنووي على الـ5+1 في الوقت الذي كانت تُنشِّط فيه تدخّلاتها العسكرية والسياسيّة في سوريا والعراق واليمن ولبنان. وحقيقة الأمر أنّ تلبية الإصرار الإيراني لم تكن غباءً أميركياً وأوروبّياً أمام دهاءٍ إيراني. لقد كانت سياسةً.

دونالد ترامب يتوجَّه إلى الأوروبّيين الآن ليقول لهم: أصلِحوا ما أفسَدتموه. أحد أهمِّ عناصر الإصلاح التي يُطالب بها هو التدخّلات الإيرانية في الدول العربيّة. سياسة أوباما ارتكَزَت إلى احتضان إيران وتقديم التنازلات أمامها لترغيبها بالاتفاق النووي الذي اعترفَت إدارة أوباما أنّها وافقت على بنودٍ فيه مُرغَمةً لأنّ ما عُرِضَ كان كلّ ما في الاستطاعة حينَذاك.

ترامب تبنّى استراتيجيّات وتحالفات غير تلك التي تبنّاها أوباما، وهو أوضَح ما لا يقبل باستمرارِه تحت ذريعة صيانة الاتفاق النووي مع إيران، وفي الطليعة: أوّلاً تطوير إيران للصواريخ الباليستيّة التي يُصرّ ترامب على أنّها جزءٌ من روح الاتفاق النووي فيما يُعارضه الأوروبيّون ويقفون مع روسيا والصين في الإصرار على عَزل الباليستي عن النووي. ثانياً مزاعم الفصل بين توسّعيّة إيران الإقليميّة وبين الاتفاقية النووية.

فدونالد ترامب يُطالب أوروبا الآن بأن تكفَّ عن التظاهر بأنّ صيانة الاتفاق النووي تتطلَّب غضَّ النظرِ عن التدخّلات الإيرانيّة. إنّه يَضَع الكرة في الملعب الأوروبي ويَطرَح الأمور من منظور العلاقات بين الحلفاء. يقول إنّ الاتفاق النووي أعطى إيران تأشيرةً للتدخّل في الدول العربية بلا عقاب بل بنوعٍ من المكافأة على الاتفاق النووي. وهو يُريد من الأوروبّيين الآن الموافقة على فرضِ عقوبات على النظام في طهران لوقفِ تماديها إقليمياً.

هذه عقوبات لا علاقة لها بتلك التي تمّ تعليقها بموجب الاتفاق النووي. ترامب يقول إنّه لن يُمزِّق الاتفاق النووي إذا وافقت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا على فرضِ عقوبات هدفُها التأثير على طهران للَجمِ شهيّتها الإقليميّة.

خطورةُ المواقف الأوروبّية تكمن في احتمال أن يؤدّي تهاونُها مع إيران واستخفافُها بدونالد ترامب إلى إثارة الرئيس الأميركي ودفعِه إلى الانسحاب من الاتفاق النووي. هذا التطوّر لن يخدم هدَف صيانة الاتفاق النووي، ولن يَخدم العلاقات الأميركية – الأوروبيّة ولا الوضعَ في منطقة الشرق الأوسط.

تقديسُ الصّفقة النووية لدى أوروبا أدَّى بها إلى مواقف هزيلة لها إزاء الاحتجاجات الشعبيّة الإيرانيّة. وهذا ما أثارَ ازدواجيّةً أوروبّية أيضاً نظراً لمزاعمِ أوروبا باحترام حرّيةِ التعبير لأنّ أوّلَ ما خطر على بال الديبلوماسيّة الأوروبّية هو: عدَم إقحام الاحتجاجات الشعبيّة على الاتفاق النووي.
أوروبا في حاجة إلى استيعاب تأثير التصرّفات الإيرانية الإقليميّة واتّخاذ مواقف مناهضة للتدخّلات الإيرانيّة عبر الخلايا والميليشيات.

أوروبا تَعي تماماً أنّ هناك خللاً وثقوباً في تطبيق العقوبات المفروضة على إيران وأنّ عدَم إصلاح ذلك سيَقع ذخيرةً في أيادي الرئيس الأميركي.

أوروبا تُدرك أنّها متَّهمة بأنّها تَضَع العقود التجارية فوق المبادئ الأساسيّة وأنّ دفعَها بدونالد ترامب إلى تنفيذ توعّداته وتهديداته سيكلّفها تجارياً وسيُعرّي الازدواجيّة.

أمام أوروبا فرصةُ إنقاذ الاتفاق النووي من الانهيار إذا استَمَعت جيّداً لِما يقوله الرئيس الأميركي. أمّا إذا استمرَّت في التّسخيف والاستهتار بدونالد ترامب، فإنّها تُجاذف بأكثر ممّا تتصوَّر.

حانَ لأوروبا أن تتحمّلَ مسؤوليّاتها التاريخية وتكفّ عن التظاهر بأنّها لم تكن تعلم.