Site icon IMLebanon

أوروبا المخيفة خائفة

بعيداً من أخبار المجازر والعمليات الإرهابية المنتشرة في كل العالم، ومن الحديث عن المؤامرات. وفي مراجعة بسيطة للعقل الأوروبي بعد الكولونيالية والعقل القياموي الأميركي (ِapocalyptic) نلاحظ أن ما تشهده القارة القديمة تطور طبيعي لمسارها، منذ انتهاء إمبراطورياتها الاستعمارية في آسيا وأفريقيا. أوروبا القرون الوسطى كانت غارقة في حروبها الدينية الأهلية، خلافاتها المذهبية رسمت بعض حدود دولها الحالية، منها حرب المئة عام على سبيل المثال. والحروب البروتستانتينية-الكاثوليكية، والبريطانية- الإسبانية، والفرنسية- البريطانية. ثم الحروب الصليبية الموجهة تحديداً ضد المشرق، خصوصاً بلاد الشام ومصر. أما أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر، أي في مرحلة تأسيس الدولة – الأمة، فاتجهت إلى شن الحروب الاستعمارية وكانت الخلافات بينها تتمحور حول الغنائم المنهوبة من هذه المستعمرات، وتقاسم البلدان التي تحتلها.

أشعلت المنافسة على المستعمرات حربين عالميتين، في مطلع القرن العشرين وفي أواسطه، راح ضحيتهما عشرات الملايين من الأوروبيين، ما زالت الدول تحتفي بذكراهم سنوياً، أما ضحايا هاتين الحربين في العالم الثالث فلم يجدوا من يحصيهم. ولا تسل عن الدمار النفسي والمادي الذي وقع في بلدان «المتخلفين»، فضلاً عن زرع بذور الفتنة بين القبائل والعشائر والمذاهب، وتأسيس دول وتدمير أخرى. وليست إسرائيل سوى المثال الساطع على سياسات الإبادة وإنكار حق الشعوب في تقرير مصيرها.

في أواخر القرن العشرين ومطلع الواحد والعشرين استعادت أوروبا روحها القديمة وعقلها القياموي من وراء الأطلسي، عادت إلى سيرتها وحججها القديمة في نشر الحرية والديموقراطية. جربت مع واشنطن استعادة دورها في الشرق الأوسط. حاصرت العراق وإيران في ما عرف بالاحتواء المزدوج، دعمت صدام حسين في حرب دمرت البلدين وأشعلت حروباً طائفية ومذهبية متواصلة.

على رغم ذلك كان العرب يدعون أوروبا، خصوصاً فرنسا، إلى لعب دور في منطقتهم، باعتبارها أكثر عقلانية من الولايات المتحدة، وأكثر معرفة بتاريخها، ولديها تجارب سابقة فيها من أيام الاستعمار. لكن تبين أن العرب لا يعرفون من يدعونه إلى حل مشاكلهم، فلندن وباريس وباقي عواصم القارة تحن إلى ماض تتوهم استعادته، مثلما يتوهم الإسلاميون استعادة تاريخ السلطنة العثمانية، وأمجاد الأندلس. في توهمهم هذا شاركوا جورج بوش الابن حروبه على أفغانستان والعراق، ثم اندفعوا متقدمين واشنطن في تدمير ليبيا وسورية، بدعم جماعات مسلحة اعتقدوا أنها حليفة وكفيلة بإطاحة نظام طالما ناصبوه العداء طوال عشرات السنين، غير مبالين بتدمير بلاده مادياً ومعنوياً، ولا بالحروب الأهلية التي أشعلوها بإرسال السلاح إلى هؤلاء «الحلفاء»، ودربوا كثيرين على حرب العصابات، وآخرين على الديموقراطية وإدارة الحكم وجندوا الإعلام، يميناً ويساراً. إعلام غربي ما زال حتى اليوم يمتنع عن وصف «داعش» بالإرهاب، ويستخدم عبارة مجاهدين أو متطرفين في وصف عناصره.

لم يحسب الأوروبيون المتورطون في حروب الشرق الأوسط أن الإرهابيين الذين دعموهم سيرتدون إلى عواصمهم. في تصورهم البائس أنهم ما زالوا يستطيعون إرسال عدد من السفن والجنود ليحتلوا قارات كاملة، وأنهم الوحيدون الذين يجيدون استخدام التكنولوجيا والإعلام، وأن مجتمعاتهم متجانسة دينياً وسياسياً، مثلما كانت حالهم في القرنين الثامن والتاسع عشر. الآن وصل الإرهاب إلى عواصمهم. بدأ الخوف ينتشر في عواصمهم وقراهم. لكنهم ما زالوا مصرين على سياساتهم، يريدون تغيير هذا الحاكم أو ذاك، واحتكار مصادر الطاقة بالقوة. يزرعون الفوضى حيث استطاعوا. لم يستوعبوا بعد أن مجتمعاتهم أصبحت متنوعة، جزء منها يعيش في القرون الوسطى، عقلياً ونفسياً، والجزء الآخر «المتقدم» يعيش أمجاد هذه القرون. اعتادوا أن ينقلوا الحروب إلى البلدان الأخرى، وأن تبقى مجتمعاتهم آمنة.

في بريطانيا، دين رئيس الوزراء السابق (نصف إدانة) لذيليته لجورج بوش الابن وشنه الحرب على العراق بناء على أكاذيب. لكن خليفته شارك الأطلسي في تدمير ليبيا، وأرسل طائرات لتقصف في العراق وسورية. وشاركت فرنسا ساركوزي في تدمير هذا البلد، وأرسلت أيضاً طائراتها إلى العراق وسورية، وما زال هولاند يتبع السياسة ذاتها.

لا يكفي أن تدين أوروبا الإرهاب عندما يضربها وتدعمه وتستخدمه لتنفيذ سياساتها حيث استطاعت. القارة التي كانت مخيفة أصبحت خائفة، فهل يكفي خوفها لتتجرأ على التخلص من ماضيها؟