Site icon IMLebanon

أوروبا ضحية انهيار سايكس بيكو

في الاعتداءات الجديدة على أوروبا – عبر بروكسيل هذه المرة – سيكون من غير المطَمْئِن لبلجيكا وأوروبا والعالم أن تُهيمن المقاربة الأمنية الصرف للأحداث على المقاربة السياسية.

لا شك أن تكثيف الجهود الأمنية البوليسية والإدارية كما حصل في السابق بعد اعتداءات باريس الأولى والثانية العام المنصرم هو أمر طبيعي، وقد حقّقت هذه الجهود نتائج مهمة في تلافي عمليات إرهابية أخرى رغم إفلات العمليتين الأخيرتين من هذا السياق الوقائي.

لكنْ سيكون من المؤسف أن تطغى المقاربة الأمنية في هذه اللحظات المريرة على الرؤية السياسية الأوروبية للعالم وللشرق الأوسط تحديدا.

السؤال الكبير الذي يجب أن لا تسعى أوروبا إلى تجاهله الآن، وقد تجاهلته العام المنصرم، هو: هل على الاتحاد الأوروبي وخصوصا دولَه الكبرى، إعادة النظر في سياساتها الخارجية حيال العالم العربي والشرق الأوسط إعادةَ نظرٍ جديةً وجذرية؟

لقد أهملت أوروبا أكثر من اللازم مسألة أولوية تماسك الدول في منطقتنا، بل أهملت ذلك بشكلٍ خطير نحصد نتائجه جميعاً الآن لا الأوروبيون وحدهم.

ما معنى انهيار سوريا؟ ليبيا؟ القسم الشمالي والأوسط والغربي من العراق أي العراق بالنتيجة؟ اليمن؟ ما معنى استمرارِ رخاوةٍ ما في ردود الفعل على التهديد الخطير الذي تواجهه وحدة الدولة وسيادتها في مصر؟

ثَبُتَ أن الجزء الأكثر تعرّضا للأخطار الأمنية والديموغرافية وبالتالي الوجودية في الغرب الذي قاد سياسة مشتركة حيال هذه المنطقة منذ العام 2011 هو أوروبا جارةُ الشرق الأوسط الجغرافية القريبة بل القريبة أكثر مما كان يعتقد المسؤولون الأوروبيون في السابق وخبروا بالملموس معنى هذا الجوار حين تنهار الدول والمجتمعات العربية بما لا سابقة له دون أن ننسى لحظةً أن هذا النظام الإقليمي الذي انهار كان إعلان فشلٍ لنظام وضعته أوروبا نفسها والمعروف بصورة خاصة بتقسيمات سايكس بيكو بعد الحرب العالمية الأولى.

لم يُظهِر المسؤولون البريطانيون والفرنسيون في السنوات الأخيرة أي حساسية تاريخية حيال انهيار نظام إقليمي رسمه، دولاً ومجتمعاتٍ ، أسلافُهم في باريس ولندن بقيادة ديفيد لويد جورج وجورج كليمنصو رئيسي وزراء مؤتمر السلام العام 1919.

ومع أني لا أستسيغ وصف سياسيين محنكين وكبار بألفاظ كالتالية، فقد كان إصرار سياسيين مثل لوران فابيوس ودايفيد كاميرون على تكرار التمسك بالسياسات نفسها فور كل عملية إرهابية في باريس العام 2015 من حيث المسارعة للتأكيد أن أوروبا لن تتخلى عن ما تفعله في الشرق الأوسط دون أي حس نقدي… كان ذلك الإصرار نوعا من العناد الذي يمكن وصفه، قياسا بالنتائج التي نراها الآن، عنادا فاقدا للبوصلة أو قصير النظر. لقد كانت أوروبا محتاجة، وخصوصا منذ العام المنصرم، إلى نقد ذاتي من الصنف الذي دعا إلى ممارسته الرئيس الأميركي باراك أوباما مؤخراً حيال التجربة الغربية العسكرية والسياسية في ليبيا.

لا يمكن أن تحتمل أوروبا وضعا منهارا كالوضع الحالي في العالم العربي. كانت تعتقد عكس ذلك على الأرجح. ربما تستطيع أميركا ذلك لأنها بعيدة أما أوروبا المجاورة أقل من مئتين وخمسين كيلومترا هي المسافة البحرية بين بيروت وقبرص العضو في الاتحاد الأوروبي، والملاصقة لتركيا عبر اليونان وبلغاريا ولليبيا عبر مالطا وإيطاليا، فلا يمكنها ذلك… بحيث تتحول ليبيا وسوريا والعراق إلى مرتع شاسع وواسع للجيل الأعنف والأوحش من الأصولية الإسلامية التكفيرية. ثم تستمر هذه الأوروبا في التصرف كما كانت تفعل في الشرق الأوسط باسم أولوية مصالح كبرى.

دعونا نذهب في المصارحة أكثر:

كانت نقطة التحول الكارثية في الوضع السوري هي عسكرة الثورة. قبل العسكرة كانت هناك حركة مدنية شبابية، كما يحصل في العديد من دول العالم، تواجه نظاما استبداديا. مع قرار العسكرة، الذي عنى فتح الحدود التركية والأردنية أمام معارضي النظام، فقد بدأ عصر “ذهبي” لجيل جديد من التيارات التكفيرية كانت الحركة الديموقراطية المعارضة للنظام أبرز ضحاياه. وها هو الإرهاب المتنقِّل بكل هوله وبشاعته وإجرامه أحدُ نتائجه الكبرى.

ليس الموضوع هو القبول بالديكتاتوريات. ولكن كما حصل لعقود كان ينبغي إيجاد صيغة للموازنة بين أولوية منع انهيار الدولة والنضال لأجل ديموقراطيتها.. خصوصا أن الحركات الديموقراطية بعد 2010 كانت قد تبلورت ونضجت على مستوى النخب الشبابية بحيث كان يمكنها أن تجد وسيلة لتطوير أدواتها المدنية ضد عنف بعض الأنظمة.

ماذا كانت أوروبا والعالم العربي ليستفيدا لو لم ينجح الجيش المصري، مستندا إلى الثقافة السلمية العميقة للمجتمع المصري، في منع انهيار الدولة؟ رغم الحاجة المتواصلة للحد من ممارسات السلطة التعسفية التي تواكب هذه العملية؟

الحفاظ على استقرار لبنان كان إحدى السياسات السليمة النادرة في هذا التخبط؟ كذلك محاولة الضغط على الحكومة التركية للحد من ممارساتها غير الديموقراطية دون المساس بأولوية سلامتها السيادية كانت من المعادلات السليمة التي مارستها السياسة الأوروبية.

أيا تكن دوائر هذا التقييم متعددة ومتداخلة فإنه لم يعد ممكنا لأوروبا أن تواجه حالة الحرب الحقيقية التي يشنها الإرهاب الأصولي ضد نمط الحياة الأوروبية وليس فقط الأمن المدني الأوروبي، من دون إعادة نظر عميقة في السياسات الأوروبية في الشرق الأوسط الذي انهار “نظامه الأوروبي” لما بعد الحرب العالمية الأولى.

ذهبت فرنسا إلى مالي وأنهت أو طردت الوحش الإرهابي. ألا يستحق خطرٌ أدهى على أوروبا أن تذهب أوروبا العسكرية بشكلٍ ما مباشر للقضاء على “داعش” أولاً. والعنوان معروف: الرقة والموصل.

الأساس في هذه اللحظات الدامية الصعبة المتجددة في أوروبا أن تأخذ المقاربة السياسية، مقاربة السياسة الخارجية مكانها الذي تستحق إلى جانب المقاربة الأمنية إن لم يكن قبلها.

هل يعني ذلك أنه على أوروبا أن تعمل على إنقاذ النظام الأوروبي (سايكس بيكو) للشرق الأوسط… إذا كانت تستطيع بعد؟