الوضع اللبناني المتعثر دوماً، لم يعد يُرضي الصديق أو الحليف، وهو طبعاً بعيد عن رضى الشقيق، الذي نفر من الخلافات المزمنة بين السياسيين الفاسدين، فضلاً عن إستهجانه لخروج لبنان من الصف العربي، وإنحيازه للمحور الإيراني.
الإصدقاء الأوروبيون الذين ضغطوا كثيراً لتسهيل ولادة الحكومة الميقاتية، أصيبوا بخيبة أمل كبيرة بسبب عطبها السريع وتعليق جلسات مجلس الوزراء، وعودة آلية الحركة للحكم الحالي إلى الشلل من جديد، وقبل أن تحقق الحكومة أبسط الخطوات الموعودة على طريق الإصلاح، وتحسين وضع الكهرباء.
ومع تفهم باريس مثلاً لتعقيدات الوضع اللبناني المتداعي، وتأثير العوامل الخارجية، الإقليمية والدولية، في تحريك رياح الخلافات اللبنانية، إلا أن ثمة لوماً كبيراً على المنظومة السياسية، في تغليبها مصالحها الأنانية والحزبية، على ما عداها من متطلبات العمل الإنقاذي لبلد في مرحلة الإحتضار الإقتصادي والإجتماعي، وسقوط الأكثرية الساحقة من اللبنانيين تحت خط الفقر.
ولا تخفي السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو مرارة الإنتقادات التي توجهها باريس، وأصدقاء لبنان الغربيين لأداء السياسيين اللبنانيين، الذين يستسهلون تعطيل المؤسسات الدستورية، في وقت يكون فيها البلد بأمسّ الحاجة لقرارات حاسمة للملفات المطروحة، والتي من شأنها أن تُسرّع خطوات خروج لبنان من دوامة الأزمات الراهنة، وتُخفف عن اللبنانيين الكثير من معاناة مرحلة الإنهيار الصعبة.
وإذا كان من الصعوبة بمكان التوصل إلى توافق حول رؤية مشتركة بين الأطراف السياسية للقضايا الخلافية المطروحة، وفي مقدمتها قانون الإنتخابات، والتفاوض مع صندوق النقد الدولي، فضلاً عن مستقبل النظام السياسي في لبنان، وما يطرحه البعض حول الفيدرالية واللامركزية، أو إعادة النظر ببعض بنود إتفاق الطائف، فإن بعض القضايا الحيوية، والتي تمسّ حياة اللبنانيين اليومية، وفي مقدمتها الكهرباء وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتوفير الإمكانيات الضرورية لإعادة إطلاق النشاط التربوي بمختلف مستوياته، كلها قضايا ملحّة لا يجب إضاعة المزيد من الوقت لمعالجتها، وإيجاد الحلول المناسبة لها، بالتعاون مع الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية، والتي تنتظر جميعها الخطط الجدية من الحكومة الحالية حتى تتخذ القرارات الحاسمة بشأن الإفراج عن بعض المساعدات المجمدة منذ فترة، بسبب الفساد الذي شوّه مصداقية السلطة الحاكمة.
وتؤكد السفيرة غريو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لن يتخلى عن مساعدة الشعب اللبناني في محنته الراهنة، رغم الخيبات الصادمة من السياسيين اللبنانيين، الذين تنكروا لما وعدوا به الرئيس الفرنسي خلال زيارتيه بعد إنفجار مرفأ بيروت المريع، وأبقوا البلد بلا حكومة لأكثر من عام بسبب الصراعات على الحصص والنفوذ في السلطة.
ويبدو أن الرئيس ماكرون يُعد حالياً لعقد مؤتمر دولي جديد لمساعدة لبنان على النهوض من كبوته، بمجرد أن تُنهي الحكومة وضع البرنامج الإنقاذي الذي على أساسه سيتم تحديد الأولويات، ومعرفة حجم الدعم الذي يمكن توافره في الوقت المناسب.
لا تخوض الديبلوماسية الفرنسية الخبيرة بالشؤون العربية، في الملفات الخلافية بين لبنان والأشقاء في دول الخليج العربي، ولكنها تكتفي بالقول بأسلوب ديبلوماسي احترافي، بأنه كان من الأفضل للبنان أن يتجنب الوقوع في مثل هذه المطبات، وأن الإسراع في معالجتها وإعادة العلاقات مع الخليجيين إلى طبيعتها هو أمر تقتضيه مصلحة اللبنانيين أولاً.
ما تسمعه من أصدقاء وطن الأرز من إهتمام ومحبة وإحترام للشعب اللبناني، تشعر بمدى حقارة وأنانية الطبقة السياسية التي لا همّ لها إلا اللهث وراء الصفقات والسمسرات، والتي أدى أداؤها إلى إفلاس الدولة، وإفقار الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، ونهب ودائعهم في المصارف، وإعادة البلد مئة عام إلى الوراء، من خلال تعميم العتمة في بلد «الإشعاع والنور»، وإذلال الناس وإفتعال أزمات البنزين والمازوت والرغيف، والتسبب في هذا الإنهيار المستمر لليرة، وفقدان القوة الشرائية لملايين العائلات التي وجدت نفسها فجأة في عداد المجموعات المحتاجة، بعدما إقتحم الفقر منازلها على إيقاع الإنهيارات المتتالية.
يُعلق أصدقاء لبنان ـــ تقول غريوــ أهمية بالغة على التغييرات السياسية التي ممكن أن تحصل نتيجة الإنتخابات النيابية القادمة، .. ولكن ماذا لو تواطأت الأطراف السياسية على تأجيل هذه الإنتخابات ؟
تكتفي غريو بعلامات الحيرة والدهشة التي إرتسمت على محياها، وتنتقل إلى حديث آخر وكأنها لا تريد أن تسمع بمثل هذا الإحتمال الصادم لأصدقاء لبنان، بقدر ما سيكون محنة جديدة للبنانيين في مسيرة الإنحدارات المستمرة.
تُرى .. هل إقترب صبر فرنسا والأصدقاء الأوروبيين من النفاد؟