IMLebanon

خذوا أسرارهم من سفرائهم…

 

ما لا يقوله سفراء الدول الكبرى صراحة ويتجنّبون الكشف عنه في لقاءاتهم مع أي مسؤول، التزاماً بتوجيهات دولهم، يبوحون به في المجالس والمناسبات الاجتماعية والمآدب مع الأصحاب واللقاءات مع سياسيين وغير سياسيّين، مع الاستفاضة في عرض خلفياته ومراميه. وهذا البوح، إِمّا هو مقصود ومتعمّد ومُوحى به، وإِمّا ينساب طليقاً دون كوابح في «مجالس الاصدقاء» او ظهر لا إرادياً عبر فلتات ألسنة البعض منهم.

 

الملف الحربي، هو الطاغي في الوقت الراهن، على الحركة الديبلوماسيّة التي تتوزّع في غير اتجاه. الثابت في هذه الحركة، أنّ لدى الأميركيين وحلفائهم من كل الجنسيات قناعة أكيدة وراسخة، بأنّ ثمّة استحالة لتهدئة الجبهة الجنوبية قبل وقف العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة. وأمّا أقصى الممكن فِعله في موازاة هذه الاستحالة، فهو دعوة متكرّرة، باتت تقليداً منذ بداية المواجهات قبل نحو سنة من الآن، تنقل بشكل مباشر أو عبر القنوات الديبلوماسية، او بصورة علنية عبر المنصات والمواقع الإعلامية، إلى تجنّب الحرب الواسعة والحفاظ على القدر الأعلى من ضبط النفس والاحتكام الى حلّ ديبلوماسي، بوصفه السبيل الوحيد لوقف التصعيد.

 

بعد العدوان الإسرائيلي الثلاثي؛ تفجير «البيجر» وأجهزة اللاسلكي بعناصر «حزب الله»، والإغارة على مبنى سكني في الضاحية الجنوبية واغتيال قادة عسكريين من الحزب، وقتل وجرح العشرات من المدنيين، تكثفت حركة السفراء والبعثات والممثليات في لبنان بصورة علنية وغير علنية في غير اتجاه داخلي، وارتفعت حرارة القنوات الديبلوماسية مع اكثر من مسؤول. لم يكن التركيز على ما حصل، وما نتج من العدوان الثلاثي، بقدر ما كان محاولة لاستكشاف زمان ومكان وحجم ردّ فعل «حزب الله» على هذا العدوان.

 

تلك المحاولة، التي بدأت مباشرة بعد تفجير «البيجر» منتصف الأسبوع الماضي، واستمرت بعده، كانت مغلّفة بشيء من التعاطف مع الضحية، «والانتقاد» لهذه «العملية الاسرائيلية التي من شأنها تأجيج الصراع أكثر»، إلّا أنّ جوهرها الأساس كان التركيز بصورة صريحة ومباشرة على أنّ هذا الحدث على جسامته يستوجب ضبط النفس، وعدم إعطاء فرصة لمزيد من التصعيد الاسرائيلي.

 

ولعلّ أكثر ما استفزّ المعتدى عليه، كان ما بدا أنّه طرح استباقي واحتوائي لردّ الحزب، جرى تمريره عبر القنوات الديبلوماسية؛ ويُقال إنّه جاء من مكان ليس بعيداً من سفارة إحدى الدول الكبرى، وحطّ بداية في يد مسؤول كبير، ليحمله هذا المسؤول بنفسه الى مسؤول كبير آخر، وليُنقل بعد ذلك إلى «حزب الله». وعلى ما يقول أحد العارفين، فإنّ هذا الطرح عنوانه العريض استعجال الحلّ السياسي المقترح من قبل الأميركيين، كسبيل ضروري وملحّ لمنع التصعيد وتمكين السكان من العودة بأمان إلى منازلهم على جانبي الحدود.

 

«حزب الله» رفض الطّرح الجديد – القديم، بوصفه ينطوي على محاولة واضحة لفصل جبهة الجنوب عن جبهة غزة. ويسوَّق هذه المرّة بالتخويف من تلويح اسرائيلي جدّي بإتباع العدوان التفجيري بتصعيد أكبر. وبدا من توقيت طرحه أنّه قائم على فرضية أنّ هذا التفجير «طوش» الحزب ودبّ الذعر فيه وهزّ أركانه، والفرصة الآن مؤاتية لإخضاعه مجاناً لحلّ سياسي يحقق هدف إسرائيل بإخلاء المنطقة الحدودية من السّلاح وإبعاد «حزب الله» عن الحدود إلى ما بعد الليطاني، وإعادة من تسمّيهم سكان مستوطنات الشمال إليها. والجواب على كل هذه الفرضيات كان واضحاً في «خطاب التحدّي» الذي اطلقه السيد حسن نصرالله غداة تفجير «البيجر».

 

ضمن هذا السياق، سارع أحد السفراء الاوروبيين إلى لقاء على عجل مع مسؤول كبير غير مدني، وخلال الحديث بدا مأخوذاً بتفجير «البيجر»، وكان مستهولاً حجم الإصابات، ومتأثراً من المشاهد التي تناقلها الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، قال صراحة: «هذا العمل خطير جداً، أقرأ فيه استدعاء للحرب».

 

ولكنّه سرعان ما انتقل الى ضفة أخرى، فبدأ يستفسر عن ردّ فعل «حزب الله»، ثم نحى في كلامه في اتجاه آخر بدا فيه وكأنّه يضع في يد مضيفه رسالة ما، حيث قال ما حرفيتّه «إنّ الحل الديبلوماسي هو الطريق الأقرب الذي ينبغي على كل الأطراف الإنخراط في مساره فوراً لإعادة الهدوء والاستقرار على جانبي الحدود بين لبنان وإسرائيل. ونعتقد انّ مصلحة لبنان تقتضي كبح جماح «حزب الله» وثنيه عن الإقدام على اي خطوة تدفع الوضع إلى تدهور اكبر، وخصوصاً انّ كلّ المؤشرات من اسرائيل تؤكّد أنّها لن تسكت عن استهدافها، وستقابل ايّ ردّ من قبل «حزب الله» عليها بقصف واسع وغير مسبوق في عنفه منذ تشرين الاول من العام الماضي، وليس خافياً على احد أنّ نتنياهو يقفز قفزات متعمّدة إلى الحرب الواسعة في اتجاه لبنان وتوجيه ضربة قاصمة الى الحزب».

 

 

ما قاله هذا السفير، ناقضه كلامٌ من نوع آخر، ساقه زميل له خلال «لقاء ضيّق» تلا العدوان الإسرائيلي على الضاحية واغتيال القادة العسكريّين في «حزب الله»، مع شخصيّة وسطية بارزة وعدد محدود جداً من المقرّبين منها.

 

على ما يقول مطلعون على أجواء اللقاء، فإنّ تلك الشخصيّة التي اتسمت مواقفها الأخيرة بـ«جرأة ملحوظة»، بدت متوجّسة من حرب يريدها نتنياهو لإشعال المنطقة، وأبدت تخوفاً شديداً من أنّ هذه الحرب واقعة لا محالة، وتفجير «البيجر» واجهزة اللاسلكي واستهداف حي سكني في الضاحية، إعلان صريح للحرب من قبل إسرائيل، وما من شك أنّ «حزب الله» تلقّى ضربة قوية وموجعة جداً، إنما ليست قاصمة، وبالتالي لم يمرّر هذا العدوان ولن يتأخّر في الردّ. وخطاب السيد حسن الأخير أسس لمرحلة جديدة جوهرها الانتقال من الإشغال المحدود المعتمد منذ تشرين الاول من العام الماضي، إلى الإشعال الكامل ووضع العمق الاسرائيلي في مرمى صواريخه.

 

في تعقيبه، اتفق السفير مع مضيفه بأنّ العمليات الاسرائيلية الاخيرة تعجّل بالحرب، الّا انّه سلّط الأنظار على مجموعة كوابح لها، خلاصتها:

 

– الأمر مختلف اليوم عمّا كان عليه في بداية حرب غزة. آنذاك كان هناك احتضان وإجماع على حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها، وضرب حركة «حماس»، واما اليوم فلا رعاية دولية لحرب إسرائيلية على لبنان. وواشنطن وباريس ولندن وسائر دول اوروبا، أبلغت تل ابيب برفضها لهذه الحرب. حتى أنّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون توجّه الى نتنياهوة بكلام يتّسم بحدّة شديدة.

 

– خيار الحرب الجديدة صعب اسرائيلياً، ذلك انّ حربها على غزة لم تُنْهِها بعد، وأهدافها لم تتحقق، فكيف بحرب مع «حزب الله» الأكثر عدداً وتسليحاً وخبرة قتالية. فضلاً عن انّ اسرائيل مأزومة بعلاقات سيئة مع معظم الدول نتيجة المجازر التي ارتكبتها في غزة.

 

– إنّ اسرائيل وبرغم وتيرة التهديدات العالية السقف، مدركة انّ الحرب على لبنان ستكون مكلفة عليها بشكل كبير. والإسرائيليون يقولون لنا إنّ الحرب مع «حزب الله» والانتصار عليه امر صعب جداً. وانّهم ضمناً، يأخذون في الاعتبار التحذيرات الاميركية المباشرة من انّ حرباً على لبنان كارثية على اسرائيل، حيث ستدفع فيها أثماناً باهظة دون ان تتمكن من تحقيق اهدافها.

 

– خلافاً للشكوك في موقف الإدارة الاميركية، فإنّ واشنطن قرأت بعناية شديدة دروس ومجريات الحرب التي لم تنته في غزة. وتبعاً لذلك فإنّ مصلحة إسرائيل فوق كل اعتبار بالنسبة الى الولايات المتحدة الاميركية، والحرب من شأنها الإضرار بها، ليس آنياً فقط بل على المدى البعيد، وبأثمان قد لا تُعوّض، ومن هنا فإنّها أشدّ عزماً على منع اشتعال حرب واسعة، ولن تسمح بها، حتى ولو كان نتنياهو ووزراء حكومته راغبين بها ومندفعين اليها.

– إنّ واشنطن اكّدت انّ وقف اطلاق النار في غزة هو السبيل لتهدئة كل الجبهات، بما فيها جبهة لبنان. الآن تشهد الامور بعض التباطؤ، ولكن لن يطول الوقت أكثر من اسابيع قليلة حتى تعود واشنطن الى تحرّك مكثف لإنجاز تسوية تفضي الى صفقة تبادل، وتنسحب تلقائياً بالتعجيل في حل سياسي على جبهة لبنان.