يرتعد الأوروبيون من الأحداث التي تعصف بلبنان. القلق مضاعف على جنود الـ«يونيفيل»، ومن موجة لجوء وهجرة ضخمة تجتاح أوروبا في حال انهيار الوضع في البلد الصغير
تضفي التطوّرات اللبنانية كثيراً من القلق على عواصم القرار في أوروبا الغربية. التدهور الاقتصادي اليومي والأحداث في الشوارع والعجز عن تشكيل حكومة، كلّها مؤشّرات تقرع جرس الإنذار من باريس إلى برلين وروما ولندن، معلنةً خطراً قادماً. المستعمرون القدامى يدركون تماماً مدى التأثير الذي يعكسه عليهم «اللا استقرار» في المشرق، كما في شمال أفريقيا، وهم خبروا مع المأساتين السورية والعراقية اللتين شاركوا في صنعهما، تحوّلات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية، هزّت تأثيراتها بلدانهم.
هذه الأيام، تنكبّ الطواقم الدبلوماسية الأوروبية في بيروت على تزويد عواصمها بتقارير عن التطوّرات المتلاحقة مرات عديدة في اليوم. يُراقب هؤلاء تدهور سعر صرف الليرة وارتفاع الأسعار وشحّ المواد وصرف الموظفين وإغلاق المؤسسات أبوابها، وكلّها مؤشّرات على فوضى قادمة. كما يراقبون عن كثب القلاقل الأمنية، بدءاً بقطع الطرقات والإشكالات التي باتت تحدث مؤخّراً والتوتّرات بين الأحزاب والقوى السياسية. وهذه الأحداث باتت تخيفهم على مستوى الأفراد وطواقم البعثات الدبلوماسية. حتى إن غالبية السفارات الغربية بدأت بترحيل من يرغب من عائلات الدبلوماسيين، بسبب عدم انتظام العام الدراسي وخشية من التطوّرات، فيما عملت بعثات أخرى على نقل موظّفين إلى سفاراتها في دمشق، رغم العمل الدبلوماسي الخجول الذي تقوم به تلك السفارات في العاصمة السورية منذ سنوات.
إلّا أن القلق الأكبر، لدى غالبية هذه الدول، هو من الموقف الأميركي الضمني – والمعلن أحياناً – حيال الأحداث في لبنان. يشعر الأوروبيون، الفرنسيون والألمان والإيطاليون أساساً والبريطانيون بدرجة أقلّ، بأن الأميركيين مستعدون لتسعير الأزمة اللبنانية، ولا يمانعون بإغراق البلد بأكمله على أمل أن يغرق معه حزب الله والمقاومة وكل من يرفض صفقة القرن. وإذا كان الأوروبيون ينتقدون الفساد الذي أكل الدولة اللبنانية ومقدراتها ويطالبون بمعالجته ويربطون المساعدات بإجراءات عمليّة لمكافحة الفساد، إلّا أنهم يقرّون، بأشكالٍ مختلفة، بأن من فجّر الأزمة بشكل مباشر هو الضغوط الأميركية على القطاع المالي اللبناني برمّته، في المصارف والمغتربات. وبحسب ما يدور على ألسن الدبلوماسيين، فإن الأميركيين لا يكترثون للنتائج التي قد تنتج عن استمرار تآكل القطاع المصرفي، طالما أنه يُضعف حزب الله وحلفاءه، ولو بشكل أقلّ مما يؤذي حلفاءهم. كما أن خطوات لاحقة موضوعة على الطاولة ستسهم في انهيار كلّي لهذا القطاع، بينما أبلغت ثلاثة مصارف، على الأقلّ، جهات أوروبية، بأن قدرتها على الصمود لا تتجاوز شهرين، فضلاً عن التأثير المباشر لتدهور سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار على السوق السورية التي بدأت تتأثر بشكل متسارع بأوضاع لبنان ارتفاعاً للدولار أمام الليرة السورية وارتفاعاً في الأسعار، مع ازدياد شراء اللبنانيين حاجاتهم من السوق السورية.
كل هذه العوامل تضع الأوروبيين أمام لحظة مماثلة لموجة الهجرة التي ضربت القارة العجوز بين 2013 و2016، حيث استقر غالبية المهاجرين، الشرعيين وغير الشرعيين، في غرب القارة، وهم بغالبيتهم العظمى أتوا من سوريا والعراق وليبيا والسودان والجزائر وأفغانستان، عبر تركيا والبحر المتوسط.
يعني ذلك، بالنسبة الى هذه الدول، مواجهة أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية من جراء موجة الهجرة (من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين من لبنان، مع آخرين يرجّح قدومهم من العراق وشمال شرق سوريا، إضافة إلى من ينتقلون بشكل مستمر من أفغانستان وأفريقيا)، تفوق قدرتها على الاحتواء. ويلاحظ هؤلاء الدبلوماسيون أيضاً توسّع قاعدة أحزاب اليمين في بلدانهم وبروز حركات عُنفية جديدة، تستمّد قوتها وتهدّد الأحزاب الحاكمة، كما في ألمانيا، من خلال تسويق خطر الهجرة واللجوء.
أما الخوف الآخر، فهو حيال مصير آلاف الجنود الأوروبيين العاملين ضمن قوات الطوارئ الدولية «اليونيفيل»، الذين قد يكونون تحت التهديد في حال اندلاع فوضى شاملة ترفع من احتمالات صدام عسكري واسع بين إسرائيل وحزب الله.
غالبية السفارات الغربية بدأت بترحيل من يرغب من عائلات الدبلوماسيين
خلال الأسبوعين الأخيرين، أبدى الأوروبيون، خصوصاً الفرنسيين والبريطانيين، اندفاعاً تجاه لبنان عبّرت عنه زيارة مدير دائرة الشرق الاوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف فارنو، ثم زيارة مدير الشؤون السياسية في الخارجية البريطانية ريتشارد مور، في جولات وصفت بـ«الاستطلاعية». إلّا أن مهام الموفدَين تخطّت الاستطلاع، إلى إبلاغ اللبنانيين مواقف جديدة نوعاً، تحديداً حيال واقع الرئيس سعد الحريري. وجرى الحديث عن أن رباعي فرنسا ألمانيا بريطانيا وإيطاليا، لا يمانع أن ترأس الحكومة شخصية غير الحريري شرط ألا تكون مستفزّة لـ«الشارع السنّي»، مع التأكيد أن مشاريع «سيدر» غير مرتبطة بشخص الحريري ولا تشترط عدم وجود حزب الله في الحكومة. طبعاً، يحبّذ الرباعي الأوروبي اتخاذ خطوات بعد التشكيل للذهاب نحو انتخابات نيابية مبكرة، إلا أن العملية الانتخابية ليست شرطاً أيضاً لدعم الحكومة الجديدة التي كشف الأوروبيون عن نيّتهم دعمها بمساعدات معيّنة لتنشيط العجلة الاقتصادية، بالتوازي مع إجراءات إصلاحية لمكافحة الفساد ووقف الهدر. وهذا التطوّر، خصوصاً حيال شخص الحريري، طرأ بفعل القلق الأوروبي المستجد، حتى إن مصدراً دبلوماسياً أوروبياً أكّد لـ«الأخبار» أن تشكيل الحكومة هو أولى الأولويات، ويتمّ تقديمه على الأولويات السياسية التي كان الأوروبيون يتمسكون بها سابقاً. ويعتقد أكثر من مصدر أن تشكيل الحكومة ممكن قبل عيد الميلاد، ولأجل ذلك يجري العمل على تكثيف اللقاءات واستكمال الاجتماع الثلاثي (الأميركي – البريطاني – الفرنسي) أخيراً، بهدف التسريع في تشكيل الحكومة وتقريب وجهات النظر مع الأميركيين. وبينما يحاول الفرنسيون تصدّر الدور الأوروبي في لبنان، يسوّق البريطانيون أمام اللبنانيين أنهم أكثر قدرة من الفرنسيين على إقناع الأميركيين بالحلول المناسبة.
التباين الأوروبي ــ الأميركي تجاه الملفّ اللبناني، ينعكس انسجاماً أوروبياً مع الموقف الروسي في ضرورة إيجاد الحلول ومنع الانهيار الشامل. إلّا أن هذا الانسجام لا يزال في بداياته، ومحصوراً باتصالات محدودة، إن كان على مستوى السفراء في بيروت، أو على مستوى العواصم. ويبقى الحذر الروسي قائماً من الاتكال على دورٍ أوروبي بارز في الملفّ اللبناني، بعد سلسلة من الخيبات تبدأ من الملفّ الأوكراني إلى سوريا وإيران، إذ لمس الروس عدم قدرة الأوروبيين، على رغم الكلفة التي يتكبّدونها من جراء السياسات الأميركية، على الخروج عن الخط الأميركي، والبقاء في منأى عن ساحات الصراع المتزايدة بين الأميركيين والروس والصينيين على امتداد العالم. ويقول مصدر دبلوماسي روسي واسع الاطلاع إنه «في الوقت الذي يستمر فيه الأميركيون بتهديد الدول الأوروبية وإخضاعها ومنعها من التعاون مع موسكو، نجد تعاظماً في دور بولندا في غرب روسيا، وتوجّهاً أميركياً واضحاً لدعم وارسو كقوّة صاعدة منافسة لألمانيا وفرنسا، لزيادة التهديدات ضد روسيا وقطع التواصل مع دول غرب القارة».