كان صادماً أن يذهب البرلمان الأوروبي بعيداً في زَعزعة الكيان اللبناني، بإعلان دعمه غير المباشر لتوطين نحو مليوني نازح سوري على أرضه. لكن تعاطي غالبية القوى السياسية اللبنانية مع هذا الملف يُثير صدمة أكبر. نعم. إنها الوقاحة الأوروبية. ولكن، في المقابل، إنه احتراف الكذب اللبناني والخداع بامتياز، في هذا الملف كما في سواه.
ليس جديداً موقف الأوروبيين في ملف اللاجئين. إنهم يفضّلون استقرارهم في بلدان الجوار السوري، حتى إيجاد تسوية لأوضاعهم. فالمهم ألّا يركبوا البحر ويتدفقوا على أوروبا، حيث يتسببون بإرباكات متزايدة للحكومات والمجتمعات.
ولكن، ما قاله الأوروبيون صراحةً يقوله كثيرون في الخفاء. ففي الواقع، إن العرب الذين شاءت الجغرافيا أن يكونوا بعيدين من الحدود السورية، والناعمين في بلدانهم بمنأى عن ضغط اللجوء، هم أيضاً يؤيدون بقاء اللاجئين السوريين (والفلسطينيين أيضاً) حيث هم، إلى أن تولد تسوية سياسية مع الرئيس بشار الأسد تعالج المسألة.
وقد اختبر لبنان جيداً هذه النيات العربية منذ أكثر من نصف قرن. فالعرب تعاطوا سلباً مع ملف اللجوء الفلسطيني في لبنان حتى بات عامل تدمير له في ستينات القرن العشرين وسبعيناته، وقادَ إلى حرب أهلية وشبه أهلية دامت عقوداً، بل هي مستمرة بطرق مختلفة. وبدلاً من التدخل الحاسم للمعالجة، انخرطت القوى العربية والإقليمية والدولية في الحرب الدائرة، بعضها إلى جانب الفلسطينيين وبعضها ضدهم. وهذا التورط زاد في التهاب الوضع اللبناني وتعقيده.
فوق ذلك، برزت نغمة توطين الفلسطينيين في لبنان، إذ ساد اقتناع بأن إسرائيل لن تتيح لأبناء الأجيال الفلسطينية المتعاقبة أن يعودوا إلى ديارهم، لا عاجلاً ولا آجلاً. وقيل مراراً إن بعض القوى العربية والدولية تدعم هذا التوطين لأنه يريحها من الأعباء.
وفي أي حال، وسواء كانت هذه المقولة صحيحة أو لا، فإن لبنان يحتضن اليوم نحو نصف مليون فلسطيني. وربما غادر الكثير من أبناء هؤلاء إلى دول أخرى كمهاجرين، للدراسة أو العمل، لكن العامل الديموغرافي الفلسطيني بقي يضغط على لبنان إلى أن بدأ السوريون أيضاً بالتدفق كلاجئين في العام 2011، فصار الضغط مضاعفاً.
عندما بدأ اللاجئون السوريون يتدفقون بعشرات الآلاف يومياً من خلال المعابر الشرعية وغير الشرعية، لم يتخذ ذوو النفوذ أي خطوة جدية للحد من هذا التدفق، أو أي خطوة جدية لضبط فوضى اللجوء على الأراضي اللبنانية كافة.
وعلى العكس، انطلقت حفلة مزايدات سياسية وطائفية ومذهبية سمحت بتعطيل أي تدبير عملاني في مسألة اللاجئين. فتصاعد حجم الكتلة البشرية السورية الوافدة، والملتبسة ما بين لاجئ وغير لاجئ، ليُقارب المليونين ونصف المليون نسمة.
يعني هذا الرقم أن في لبنان اليوم مليونين ونصف مليون لاجئ (أو نازح وفق التوصيف اللبناني الرسمي) سوري وفلسطيني، علماً أن هناك اختلافات شاسعة في تقدير الأعداد بدقة، بين المنظمات المعنية وأجهزة الدولة، خصوصاً أن كثيرين من هؤلاء لم يسجلوا أسماءهم في السجلات الرسمية. كما أن الغالبية منهم يمارسون أعمالاً في لبنان تدرّ عليهم المال، لكنهم يستفيدون من التقديمات المخصصة للنازحين.
في المحصلة، كانت القوى النافذة تدرك تماماً مخاطر التدفق العشوائي لهذه الأعداد الهائلة من السوريين إلى بلد لا يتجاوز مواطنوه المقيمون الـ5 ملايين نسمة، لكنها تركت الأمور تسير نحو الأسوأ.
فقد عمل كل طرف في استثمار الملف، إما سياسياً وإما طائفياً ومذهبياً. واليوم، لا تستطيع قوى السلطة هذه إنكار أن الملف هو ورقة قوية في يد الأسد يمكنه استخدامها كما يشاء في سياق علاقاته مع لبنان.
لذلك، يبدو مستهجناً أن تتباكى هذه القوى، وأن تمعن في رفض الموقف الأوروبي وفي إبداء الحرص على مصالح لبنان، فيما هي تمادت في ارتكاب الأخطاء والخطايا منذ بداية الأزمة، وهي تتحمل المسؤولية الأولى عنها. وفي اختصار، تصحّ فيها مقولة: «ليتكِ لم تَزْني ولم تتصدّقي!».
وثمة من يسأل أيضاً: أي سلطة هذه التي انتفضت على موقف الاتحاد الأوروبي في ملف اللاجئين، لكنها لم تسمع شيئاً من نداءات الاتحاد المتكررة منذ 4 سنوات، والمطالبة بالإصلاح والشفافية؟ وهل يحق للسلطة التي أوقعت البلد في الكوارث، وترفض أي إنقاذ حقيقي، أن تدّعي الحرص على مصالحه الحيوية؟
في الواقع، يعتقد بعض المتابعين أن قوى السلطة ستكتفي بتجيير الملف إلى دمشق كي تعالجه على طريقتها، بذريعة أن الحكومة اللبنانية عاجزة عن القيام بأي شيء. وفي هذه الحال، يكون موقف قوى السلطة في ملف اللاجئين هو الوجه الآخر للموقف الأوروبي.