ما شاهدناه خلال اليومين الماضيين مدعاة للخجل أولاً والأسى ثانياً على الحال المروّع الذي بلغه الفلتان في لبنان وعلى كلّ مستوياته وقد لحق القضاء أخيراً بمشهد العصفوريّة اللبنانيّة التي يتابعها العالم المهتم لحال اللبنانيّين ووضعهم المالي والاقتصادي والسياسي المتدهور مصحوباً بصدمة تعتري هذا العالم لما يراه من استهتار للحكّام في لبنان وإمعانهم في قتل بلدهم وشعبهم من أجل مصالح شخصيّة دنيئة!
أفضل من اختصر واقع لبنان وبشفافية وصدق هو الرئيس الرّاحل الياس الهراوي منذ واحد وثلاثين عاماً ـ في معرض تبريره ضرورة بقاء الوصاية السوريّة ـ عندنا قال: «نحن لا نزال شعب قاصر لا نستطيع حكم أنفسنا»، هل يستطيع أحد أن يفسّر مشهد القضاء البلطجي ودكاكين تحقيقات مفتوحة لحسابات سياسية؟ هل حدث في العالم كلّه أن شاهدنا قاضياً ذاهباً ومعه «أرطة هوبرجيّة» يوزّع قبلاته يمنة ويسرة ويحيّي الغوغاء الذين أحضرهم بحمايته، ثمّ يجرؤ القاضي الذي يستحقّ السجن على الإهانة التي ألحقها بالجسم القضائي أن يدّعي أن ما يحدث هو «ثورة القضاء»؟!!
السؤال الذي يفترض أن نطرحه، هل هذا الفلتان مشهد لبناني مرتبط عضويّاً بالعهد العوني ـ الباسيلي؟ الجواب هو لا، وإن كانت الشعبويّة هذه وفلتانها الهستيري يحمل صبغة عونية دامغة منذ العام 1989 ولم يتغيّر فيها شيء حتى اليوم، ولا ينفع أي كلام مع الحالة الغوغائيّة لأنّ الحال معها «عنزة ولو طارت».. في الحقيقة إذا أردنا استعادة المشهد اللبناني منذ سبعينات القرن الماضي على الأقل منذ العام 1973 والبلد في حالة انقسام ولا يزال تتغيّر المعطيات والأسباب ويبقى الإنقسام وكلّما اشتدت الأزمات «بلطج» الزعماء على بعضهم البعض ولجأوا إلى فريق غريب يتأرجح غالباً بين محورين يتنازعان المشهد اللبناني المنقسم، منذ أوّل رئيس جمهوريّة بعد الاستقلال والرئاسة الأولى وجعة راس، منذ بشارة الخوري، لا يمرّ عهد إلا ورئاساته الثلاث تغرق البلاد في بحور من الاضطراب، تارة يلجأون إلى مصر وجمال عبدالناصر، وتارة يلجأون إلى ياسر عرفات ويستقوون بالسلاح الفلسطيني، وتارة ثالثة يلجأون إلى السوري ويظلّون جيئة ورواحاً على طريق دمشق الدولي وهذه فعلها المسيحيّون قبل المسلمون في حرب السنتيْن، وبعد انتهاء الحرب كلّما حرد ركن من الترويكا سارع إلى سوريا «ليفتن» على الباقين، كلّ رئاسة تستقوي على الأخرى بالسوري ليحكم بينهم، بشفافيّة نصارح أنفسنا يبدو اننا فعلاً شعب قاصر عاجز عن حكم نفسه، لا يعرف من الديمقراطيّة إلا التعطيل وفركشة سير الحياة السياسيّة والزكزكة والحرتقة من دون أدنى ممارسة حقيقيّة للحكم، «حكم ولّادي» بعقليّة صبيانيّة، على الأقل هذه الحقيقيّة هي ترجمة فعليّة لمشهد رامبو القضاء الذي تابعناه قبل يومين، وكأننا أمام تنفيذ «عمليّة إنتحاريّة»!!
وسط حالة الغرق التامّ التي تعيشها البلاد لا حلّ ينقذ لبنان سوى استدعاء وصاية عليه، وصاية أوروبيّة لتعلّمه ممارسة الديمقراطيّة، وتنقله من طور الهمجيّة السياسيّة إلى التحضّر، وتعلمّه معنى الشفافيّة ونظافة الكفّ في تنفيذ المشاريع العامّة وإرساء العطاءات وتنقذه من عقليّة السمسرة إلى عقليّة النّزاهة، وإلا سنجد أنفسنا بعد أن ينفض العالم يديْه من مزبلة السياسة في لبنان أمام الوصاية الإيرانيّة تحكمنا بالنّعال والجلد والشّنق!