السفر هذه الأيام، خصوصاً إلى بلدٍ أوروبي، لا يُخرجك ولا يُبعدك عن المشاكل والتحديات التي يعرفها لبنان… فالقارّة العجوز تعاني كما بلاد الأرز، صعاباً وتحدّيات تكاد تكون مشتركة ومتشابهة.
وأنتَ الذاهب إلى تلك البلاد لترتاح، لا يمكن إلّا أن تتعرّف على مشاعر لم تكن تتصوّر أنها قد تُرافقك يوماً في بلد أوروبي… ففي الشوارع والمقاهي تشعر بالخوف الكبير والمتعاظم من النازحين الهاربين من الحرب والجوع والفقر… وتلمس صراع الأفكار والخطط حول كيفية الحدّ من خطرهم المزعوم، وانقسام الرأي العام كما الإعلام حولهم. ولكن هذا الانقسام يلتقي حول ضرورة اتّخاذ تدابير جذريّة للحدّ من تدفّقهم من بلادهم، من دون أن تجد عند من تكلّمه تصوّراً واضحاً حول نوعية هذه التدابير أو كيفية تطبيقها.
يضاف إلى هذا الموضوع المستجد أزمة أخرى تشعر حين طرحِها أنك تتكلّم مع لبناني، هي الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب في عمق المجتمع والمؤسسات الفردية والجماعية وصولاً إلى تأثيرها على العلاقة بين دول الاتحاد الأوروبي، وذلك على الرغم من تحسّن نسبيّ في بعض الارقام التي تؤشر إلى إمكانية الخروج في المستقبل القريب من شرنقة المحنة.
إضافة إلى كلّ ذلك، هناك همٌّ مشترك، وهو الهمّ الأمني الذي يضرب ويُهدّد مدنَهم وقراهم، وخصوصاً وسائل النقل لديهم… فكلّما تكلّمت مع أوروبي، سواء كان سائحاً أو عاملاً أو ربَّ عمل، يَطرح عليك الأسئلة الامنية التي تسمعها في بيروت.
إنّه زمن الأمن العالمي المهدّد… والاقتصاد المترابط… وخوف من مستقبل سيكون مشتركاً، سواء ذهبنا إلى حرب شاملة أو إلى تسوية موَقّتة أو دائمة.
هذه الأسئلة الآنية والمستجدّة المشتركة التي يطرحها أيّ مواطن، سواء كان لبنانياً أو أوروبياً، تُقرّب الغربَ من همومنا كونها تشكّل خطراً مشتركاً… ولكن ماذا عن الأسئلة التأسيسية والمصيرية التي تسمعها كلّ يوم في بيروت؟
مِن السهل هنا أن تكتشف أنّ أوروبا أقلّه ولغاية تاريخه تبتعد عنّا لمسافات. فقد استطاعت أن تجد نظاماً لها يحميها من العواصف الكبرى، وهو نظام يقوم على ديموقراطية حقيقية يتبدّل فيها الحزب الحاكم والزعيم الحاكم بهدوء ومن دون إراقة نقطة دماء أو تعطيل مقصود للمؤسسات، ما يحافظ وفي أحلك الظروف على فكرة الدولة الجامعة… والسبب الأساسي لشبكة الأمان هذه هو اتّفاقهم بعد طول معاناة على العناوين الأساسية التي تقوم عليها الاوطان… وإيجادهم أجوبةً مقنِعة وعملية لكلّ الأسئلة التي تطرَحها الأمم في مراحل تأسيسها. وبالتالي فإنّ اختلافهم على تفاصيلهم اليومية لا يمسّ جوهرَ وجود وطنِهم ودوره، كونهم عملوا على طيّ هذه الصفحة.
وعلى الرغم من أسئلتهم ومخاوفهم وإلقائهم اللوم على مسؤولين حاليين وسابقين، إلّا أنك تستطيع أن تلمس لديهم اطمئناناً إلى عدم إمكانية المسّ بجوهر نظامهم، كون الآليات التي يملكها تطرد كلّ من يحاول التعدّي على الأسس التي قام عليها.
عند وصولك إلى هذا الاستنتاج، تُدرك جوهرَ الاختلاف بينك، كمواطن قادم من وطن يعيش فوق فوهة بركان من الأسئلة التأسيسية والتي لم نستطع أن نجد لها جواباً نهائياً كوننا فضّلنا أن نعيش الكذبة وأن نصدّقها، وبين ذلك المواطن القادم من بلد حسَم خياراته الاستراتيجية، وعلَّمته الحروب الداخلية والخارجية أن يكون صادقاً مع ذاته وحزبه ومجتمعه… وفي هذا الفرق تكمن كلّ المعضلة.