Site icon IMLebanon

أوروبا ودراغي وسياسة عدم اليقين

 

قد يكون رئيس المركزي الاوروبي ماريو دراغي سعى في مؤتمره الاخير في فرانكفورت الى ايجاد ارضية مشتركة بين الصقور الذين يقولون ان المركزي الاوروبي قد استنفذ جميع الوسائل ولم يعد باستطاعته ايجاد اي حافز اضافي، وبين الحمائم الذين يشيرون الى استمرار ضعف التضخم كبرهان لعدم استقرار الاسعار.

يقترح دراغي كحل وسط، المزاوجة بين تمديد فترة الحوافز لفترة طويلة والالتزام بابقاء الفوائد منخفضة لسنوات عدة. قد تكون خطوة دراغي جاءت في وضعية غير مريحة سيما ان النمو الذي ما يزال هشًا واقتصادات دول اوروبية عدة ما تزال متعثرة. لذلك لم يكن قرار المركزي الاوروبي بتخفيض مشترياته من الاصول غريبًا في ظل معطيات كهذه، مع ما يترتب على ذلك من تأثير في المنطقة.

وفي ما يختص بالعملة فان اي تخفيض في عملية التيسير الكمي قد لا تكون كافية لكبح اليورو او فرملته رغم التحذيرات المتكررة في شأن قوة اليورو، علماً ان عبارة سعر الصرف قد وردت في خطاب دراغي في ايلول الفائت اكثر من ٢٥ مرة مما يعني انه ما يزال الشغل الشاغل لاوروبا ولدراغي والمركزي الاوروبي.

اضف الى ذلك مشكلة التضخم سيما وانه رغم الاقتصاد المنتعش وانخفاض معدل البطالة والارقام القياسية في معيار الثقة بالاعمال الالمانية، ما يزال التضخم في مستويات غير كافية اذ بلغ حاليا ١،٥ بالمائة ولن يصل الى ٢ بالمائة قبل العام ٢٠٢٠.

علاوة على ذلك، يتعرض دراغي لضغوط عالمية وليست فقط مؤشرات اوروبية اذ ان الفدرالي بدأ عملية زيادة الفوائد، كذلك فعل بنك انكلترا لمكافحة التضخم الناشئ عن الـ Brexit مما يعني ان البنك المركزي الاوروبي لا يستطيع تحمل الانتظار طويلًا في ظل التحول العالمي في سياسات المصارف المركزية.

وقد تساعد سياسات المصارف المركزية هذه في تخفيف الضغوط على اليورو انما تبقى سيفا ذي حدين، اذ انها سوف تبعد المستثمرين عن اوروبا في ظل فوائد مرتفعة في اميركا وانكلترا، وهذا يعني ايضًا ان البنك المركزي الاوروبي، وفي ظل سياسة تخفيض مشترياته الشهرية وتمديد اطارها الزمني واعطائها مهلا، وضمان عدم رفع اسعار الفوائد، قد لا تكون كافية، سيما وان اسعار الفوائد نسبية وتتأثر بالتحولات المصرفية العالمية.

لذلك لم يكن امام دراغي العديد من الخيارات، وجاء هذا الخيار كأفضل الشرور، وإلا يكون دراغي قد قضى على اعوام من العمل من اجل استعادة منطقة اليورو عافيتها.

هذه الخطوة من شأنها ان تكفل امتداد السياسة النقدية السهلة مع خفض الاعتماد تدريجيًا على ادوات غير تقليدية وتمهد بذلك للخروج من عملية شراء السندات.

ولم تأت نتائج اجتماع المركزي الاوروبي في فرانكفورت بغير المتوقع، ويمكن اعتبار البرنامج الذي بدأ في العام ٢٠١٥ وضخت فيه ما يزيد عن ٢ تريليون يورو ناجحًا، سيما انه استطاع احداث نقله نوعية في الاقتصاد الاوروبي من حالة الأزمة الى مرحلة انتعاش نسبي. ويبقى العنصر الأهم الذي يربك دراغي ومعه المجلس هو عملية الخروج من هذا التيسير الكمي دون احداث اضرار على الاقتصاد او بأقل اضرار ممكنة.

هذا الامر يعرفه الاوروبيون جدًا وقد يكون خير دليل على ذلك عملية الـ Brexit وما سوف ينتج عنها من تحديات لأنكلترا يفرض عليها من واجبات، مع العلم بأن الانقسام داخل المجلس قوي حول سرعة التخفيض سيما وان بعض الالمان يريدون خفضها في حلول شهر آذار المقبل.

قد تكون احدى ميزات هذه السياسة الجديدة هي الصبر والمثابرة لا سيما وان الوضعية الحالية غير مريحة لأخذ اي قرار اخر وهذا ما توقعه السوق للبنك المركزي الاوروبي من حيث الحجم وفترة شراء الاصول بما يعني ان دراغي يتجنّب تعكير صفو الاسواق .لذلك ومع نكهة ايطالية، قد يكون دراغي اضاف نوعا من المفاجأة للمستثمرين بخفضه شراء السندات الشهرية الى ٣٠ مليار يورو من ٦٠ مليارا، ابتداءًا من كانون الثاني، مع التأكيد على ابقاء اسعار الفوائد بنسبة صفر بالمائة الى ما لا نهاية.

وقد ذهب بعض الاقتصاديين الى القول ان ذلك سيمتد حتى العام ٢٠٢٠. وعلى ما يبدو فان سيناريو دراغي هذا « the lower for longer» يعتبر انتصارا للحمائم في البنك المركزي الاوروبي ومتوافق مع دعوة دراغي الى الصبر والمثابرة حسبما كتبه الاستراتيجيون في بحث قامت به Brow Brothers Hariman .

هذا الامر قد يساعد على تخفيف خوف المستثمرين العالميين من ان الاسواق المالية تنهار في حال اوقف المركزي الاوروبي عملية ضخ الاموال والأهمية هنا كبيرة، سيما ان الاسواق ستتعاطى بشكل مختلف كما فعل في العام ٢٠١٣ عندما نطق برنانكي حاكم الفدرالي الاميركي آنذاك بكلمة تخفيف عملية شراء السندات الامر الذي ضرب الاسهم الى ٨ بالمائة في الشهر التالي.

تأتي هذه السياسة المرتقبة في اوقات عصيبة لبعض الدول الاوروبية سيما ايطاليا مع تزايد الغموض السياسي، عدا عن منطقة اليورو برمتها، والتي يواجه اختبارًا حاسمًا عندما يبدأ البنك المركزي الاوروبي بتهدئة برنامج شراء الاصول.

الامر دقيق بالنسبة لايطاليا التي استفادت من عملية التيسير الكمي الذي بدأ في العام ٢٠١٥ وحسب Schultzمن Citigroup الامر يأتي في وقت عصيب بالنسبة الى ايطاليا وفي ظل سياسة غير اكيدة وانسحاب المركزي الاوروبي من شراء السندات بما يعني ان الامور ستتفاقم اكثر واكثر وحسبه دائمًا أن لديهم دكمة ضخمة من الديون الامر الذي يجعل البلاد اكثر حساسية لتغيرات سعر الصرف مقارنة بالدول التي لديها ديون اقل».

وهذا لا يعني ان الدول الاخرى لن تواجه نفس المشاكل انما تبقى ايطاليا في الواجهة سيما وان هناك امرين مهمين:

١) الانتخابات في العام ٢٠١٨ مع العديد من المشككين بالاتحاد
٢
) القلق من استدامة الديون.

لذلك كانت خيارات دراغي دون ادنى شك محدودة جدا، وكان انتصارًا للحمائم سيما ان الامور معقدة اكثر منها في اميركا والدول الاوروبية. ما زالت تعاني أزمة ديون ومصارف وقد تتطلب عملية التيسير الكمي فترات اكثر بكثير من الفترة المحددة لها.

لذلك نرى اوروبا متباينة المشهد الاقتصادي. دراغي مكبل اليدين، المانيا مصرّة على انهاء هذه العملية، وتبقى ايطاليا في ظل خيار وحيد: التأقلم مع الوضع الحالي.