ماذا يحضِّر الارهاب للبنان؟ هو سؤال حاضر على كل لسان، حذر، ترقّب، قلق؛ شعور عام يضرب لبنان من ادناه الى اقصاه، خصوصاً انّ العمليات الارهابية لإحداث خرق أمني في هذا البلد لم تتوقف لحظة خلال السنوات الماضية، وحتى الأمس القريب. يكفي تقليب الصفحات الامنية لتبيان حجم الاستهداف وإرادة الارهابيين في بثّ سمومهم القاتلة داخل الجسم اللبناني، وكذلك حجم إنجازات الأمن الاستباقي الذي تتولّاه الاجهزة العسكرية والامنية، بما جَنّب لبنان سلسلة من الكوارث.
التحقيق العسكري يحاول التنقيب في أعماق «إنتحاري الـ كوستا»، لعلّه يستخرج ما في جوفه من أسرار. واذا كانت الاجهزة العسكرية والامنية اللبنانية تستحق التقدير وأداء التحية لها على هذا الانجاز، وما قبله من انجازات أحبطت من خلالها محاولات إرهابية للنيل من امن لبنان واللبنانيين، فإنّ الحكمة تقتضي عدم النوم على حرير، لا بل هي توجِب التوقّف عندها والتمعّن ملياً في تلك المحاولات، وهو ما تؤكد عليه قراءة امنية تسجّل جملة خلاصات على ما حصل وفق ما يلي:
– اولاً، انّ الارهاب، المتمثّل بتنظيم «داعش» والتنظيمات المثيلة له، ما زال يضع لبنان هدفاً لعملياته، مُتكئاً على بيئة حاضنة له وخلايا نائمة تابعة له في المخيمات الفلسطينية، ومخيمات النازحين السوريين ومناطق اخرى خارجها.
– ثانياً، إنّ الارهاب، وعلى ما يبدو، يعتبر ساحة لبنان، وتحديداً العاصمة بيروت، ساحة إغراء إعلامي له، وصدى ايّ عملية ينفذها اكبر من الساحات الاخرى، خصوصاً انه بعد الضغط الذي يتعرّض له، والانكسارات التي مُني بها والضربات الكبيرة التي تلقّاها ويتلقاّها في ساحتيه الاساسيتين، اي سوريا والعراق، يبحث عن أي ساحة.
كما فعل اخيراً في تركيا، وكما يحاول ان يفعله في لبنان، وذلك للقول انّه ما زال موجوداً ويمتلك العضلات، ويستطيع ان يضرب في كل الساحات. وبالتالي، فإنّ اختياره شارع الحمراء في العاصمة يحاكي اختيارات اسطنبول وباريس وبروكسل. وهذا دليل على نقلة نوعية في طبيعة الاستهداف.
– ثالثاً، الخطير في استهداف الارهاب للبنان، أنه وَسّع رقعة استهدافاته، بعدما كانت عملياته شبه محصورة في مناطق لبنانية من لون مذهبي او حزبي معيّن. وها هو يركز – اضافة الى تلك المناطق – على مناطق اخرى لها صدى إعلامي اكبر، بغضّ النظر عن الهوية الطائفية والمذهبية والسياسية لهذه المناطق.
بيروت مثلاً، وقبلها المناطق الشرقية، كازينو لبنان، معمل الجية الحراري، مصفاة الزهراني، وسوق الاثنين في النبطية وهجوم بمجموعة سيارات مفخخة على الضاحية الجنوبية، واغتيالات لعسكريين كبار ممّن لا يزالون في الخدمة الفعلية أو تقاعدوا، واغتيال سياسيين من لون مذهبي معيّن وتحديداً في الشمال، وغيرها من الاهداف المدنية والعسكرية التي وردت في اعترافات الارهابيين أمام الاجهزة الامنية.
– رابعاً، لا يكمن الخطر فقط في العمليات الارهابية، ولا يكمن هذا الخطر فقط في تجنيد انتحاريين فلسطينيين من المخيمات، او سوريين من النازحين، بل انّ الخطر يكمن في تجنيد انتحاريين لبنانيين من بيئات متشددة، وتحديداً من بيئة شادي المولوي ورعاته وحاضنيه، ومن إرث احمد الاسير الذي تشكّل جماعته المرتبطة بـ«داعش» و«جبهة النصرة»، فتيل خلخلة وتفجير للأمن الداخلي. وها هو المثال الحي في انتحاري الـ كوستا.
وممّا لا شك فيه انّ هؤلاء وغيرهم وجدوا ملاذهم وغطاءهم لدى بعض السياسيين وبعض المستويات الدينية، الذين انخرطوا في مرحلة الصراع السياسي في السنوات الأخيرة في تبرير وجود هذا الارهاب، والأخطر كان انخراط هذه القوى السياسية والدينية، في محاولة فرض محاكمات شكلية على بعض الموقوفين الأسيريين، مُتناسية او غير آبهة بأنّ خروج هؤلاء من السجن قد يتيح لهم إعادة تأسيس مشاريع إرهابية جديدة، كما جرى مع غيرهم من قبل، وشادي المولوي مِثال.
– خامساً، انّ الصفحات الامنية تسجل الجهد الكبير للاجهزة العسكرية والامنية، والذي أكّد امتلاكها الرشاقة والحيوية والإقدام ودقة الرصد والمتابعة.
كلّ ذلك يثبت انّ الاجهزة اللبنانية، بما حققته في السنوات الاخيرة، اصبحت نتيجة الخبرة المتراكمة، وإدراكها لخفايا تفكير الارهابيين وطريقة عملهم وكيفية تحديد أهدافهم، تساوي، لا بل متقدمة على مثيلاتها من الاجهزة الامنية الدولية في المجال الاستخباري وإحباط العمليات وإلقاء القبض على انتحاريين أحياء، قبل تنفيذ عملياتهم، و«انتحاري الـ كوستا» مِثال.
– سادساً، انّ هذا الاستهداف الارهابي للبنان يفرض على المستويات السياسية وكذلك الامنية، مقاربة البيئات الحاضنة للارهاب، بما تطلبه من جدية وحزم، من دون ايّ اعتبار لغطاء سياسي او ديني يتلطّى خلفه الارهابيون.
– سابعاً، انّ الانجازات التي حققتها الاجهزة وتحققها، تؤكد بما لا يقبل ايّ شك بأنّ قاعدة الامن الوقائي الاستباقي أثبتت جدواها وفعاليتها.
– ثامناً، انّ هذه المحاولات الارهابية، وآخرها عملية الـ كوستا، ابرزت حقيقة انّ كل لبنان مستهدف، سواء في المكان المستهدف قبل يومين والذي يرتاده اللبنانيون من كل الفئات الطائفية والمذهبية وكل التوجهات السياسية، وتوقيتها مشبوه في الوقت الذي يشهد فيه البلد بعضاً من الانتعاش، وعودة ملحوظة للسيّاح إليه، اذ جاءت لتشكّل عامل خوف وقلق لدى هؤلاء يمنعهم من المجيء الى هذا البلد.
وهنا لا يمكن تبرئة عمليات الخطف وتجارة الفدية التي ازدهرت فجأة في الآونة الاخيرة، من التناغم قصداً او عن غير قصد مع محاولات ضرب الاستقرار الداخلي.
– تاسعاً، انّ ما جرى ويجري هو استمرار للحقبة الماضية، بفارق انّ الشعور السياسي اللبناني العام التَفّ حول البلد وبَدا الجميع منخرطين عَلناً في الحرب على الارهاب، حتى أولئك الذين شكّلوا في مرحلة معينة مظلة لأكثر من ظاهرة إرهابية في اكثر من منطقة بخطاب سياسي كان يبرّر لهؤلاء لكي يكونوا نداً في صراعهم مع أطراف لبنانية اخرى. وهؤلاء طبعاً لا يمكن إعفاؤهم من المسؤولية عمّا سبق ولحق.
– عاشراً، انّ ما جرى ويجري يدخل او هو أدخلَ لبنان في امتحان دائم لتأكيد صلابته في وجه هذا العدو، والأهم هو تعميم ثقافة المواجهة، وهنا للعهد الرئاسي دوره، وكذلك للحكومة وسائر المستويات السياسية والمدنية، العلاج الجذري من هذا المرض هو المطلوب.
هناك من يقول انّ الواقعية توجب التأكيد بأن لا علاج جذرياً أمام أخطبوط تقطع ذراعه هنا فتنبت أخرى هناك. صحيح انّ العلاج صعب ولكنه ليس مستحيلاً. هنا تخلص القراءة الأمنية الى ما تصفها النقطة الأهم، وهي انّ لبنان محكوم بالسير في طريق إلزامي حتى لا يسقط امام الارهاب.
صحيح انّ الاجهزة الامنية والعسكرية بدأت سيرها في اتجاه التحصين الداخلي وتحقق نجاحات وإنجازات، وتقوم بأقصى ما يمكنها بحضورها الدائم على ارض المواجهة. وانتهاجها سياسة الحرب الاستباقية على الارهاب بالتنسيق الكامل والفاعل في ما بينها، ومع أجهزة مخابرات اقليمية ودولية.
لكن ما هو أهمّ يبقى في التركيز بفعالية كبرى على ما يسمّى المناطق الآسنة إرهابياً، والتي تشكل بيئة حاضنة لقنابل وعبوات ارهابية موقوتة، سواء في المخيمات الفلسطينية او في المخيمات السورية او في منطقة عرسال او في اي منطقة تعتبر مشبوهة.
الحسم ضد الارهاب وهزيمته يتطلّبان توفير كل الامكانات اللازمة للجيش والاجهزة، لكن قبل كل ذلك يقتضي توفّر الارادة السياسية، التي إن بقيت مفقودة او مُربكة او مترددة، ستبقي البلد يدور في متاهة لا مخرج منها.