IMLebanon

حتى لا يُصاب العهد والحكومة بـ«نيرانٍ صديقة»!

مع ولادة العهد الرئاسي الجديد، اتّفق القريب والبعيد على الحاجة إلى تحصينه بانطلاقةٍ قوية، وتمّ النظر إلى الحكومة الأولى كفرصةٍ لتشكّلَ قوّةَ الدفع الأساسية للعهد بوجهَيه الرئاسي والحكومي.

هناك من استبشر خيراً بسياسة مدّ اليد للتعاون، التي تمّ تبادلها على كلّ الخطوط السياسية والرئاسية. ولكن هل الوقائع التي تلت ولادة العهد الجديد تسير في اتّجاه تحصينه، أم أنّها بدأت تذهب في الاتجاه المعاكس، الذي يُخفّف من قوّة الدفع هذه، ويُبهت انطلاقة العهد ويُضعفها، وبالتألي يأكل من وهجه؟

عندما قال الرئيس نبيه برّي «حمى الله العهد ممَّن هم حوله»، كان يدقّ جرَس إنذار مبكر من اتّخاذ أيّ خطوة أو سلوك أيّ طريق يؤدّي إلى نحر العهد. وانطوى كلامه على إشارة أكيدة إلى أنّ المرحلة الحاليّة قد تكون أكثرَ المراحل التي يسود فيها هدوءٌ سياسي واتّفاق وطني وتفاهمات، ينبغي استغلال الفرصة خلالها والقول إنّ البلد ربحَ، وبالتالي أن تكون قاعدة التعاطي هي كثير من التفاهم مع بعضنا البعض، وكثير من التفهّم لبعضنا البعض، وكثير من التواضع مع بعضنا البعض، والأهمّ هو الاستثمار على هذا الربح لمصلحة الاستقرار السياسي والأمني والنهوض الاقتصادي، وأولى خطوات هذا الاستثمار وأهمّها هي ولادة حكومة تلمّ البلد وتضمّ كلّ المكوّنات السياسية ولا تستثني أحداً، بل لا تلغي أحداً.

لكن في نظرةٍ إلى الوقائع التي تبَدّت في زمن تأليف حكومة العهد الأولى، تظهَّر أنّ العهد ومعه الحكومة، أصيبا بـ»نيران صديقة»:

– أوّل رصاصة أصابت قوّة الدفع للعهد الجديد أطلقَها بعض من يُفترَض أنّهم أصدقاء للعهد، عبر المغالاة التي اتّبَعوها من لحظة إعلان فوز ميشال عون بالرئاسة، وكأنّ هناك من انتصَر بقوّته الرقمية وليس نتيجة تسوية أكبر من البلد، وكذلك عبر محاولة احتكار التمثيل في الحكومة الجديدة وإلغاء جميع الآخرين، والاستئثار بالحقائب الوزارية وحصر التمثيل المسيحي في «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» على حساب سائر القوى المسيحية سواء الحزبية أو القوى السياسية المستقلة والمعتدلة، إضافةً إلى المقاربة الاستعلائية لحركة التأليف عبر استفزاز قوى سياسية وازنة عبر الحديث عن مداورة لا تَشمل سوى نوعيّة معينة ومحدّدة من الوزارات، وكذلك عبر حجبِ حقائب معيّنة عنها، ووضعِ الشروط المسبَقة على تمثيلها ووضعِ «فيتوات» على أسماء بعض المرشّحين لتوَلّي هذه الحقائب.

– ثاني رصاصة جاءت من ضفّة الأصدقاء أيضاً، عبر العودة إلى الحديث عن المجلس النيابي اللاشرعي والممدَّد له، متناسين أنّ هذا المجلس «اللاشرعي» في نظرهم، هو الذي انتخَب رئيس الجمهورية!

– ثالث رصاصة جاءت من رأس الهرم الرئاسي وبعض الزوايا القريبة منه، عبر القول إنّ الحكومة الجاري تشكيلها، ليست حكومة العهد، بل إنّ الحكومة الحقيقية للعهد، على حدّ ما قال رئيس الجمهورية ميشال عون أمام الاقتصاديين، هي التي ستتشكّل بعد الانتخابات النيابية المقبلة. فإذا كانت الحكومة الجاري تشكيلها حاليّاً هي «الحكومة اللاحقيقية»، فأيّ رسالة تُرسَل لسعد الحريري في هذا الكلام؟

إذاً، حتى لو تمكّنَ الحريري من تشكيل حكومته اليوم أو غداً، فإنّ «الحكومة الحقيقية» مؤجّلة في نظر العهد، وهذا الأمر يَستحضر الملاحظات التالية:

– إنّ كلام رئيس الجمهورية عن أنّ الحكومة الحقيقية هي التي ستفرزها الانتخابات النيابية المقبلة، ينطوي على شعور بالربح المسبَق والكاسح في الانتخابات المقبلة، ووفقاً للتفاهمات الجديدة التي عَقدها خصوصاً مع «القوات اللبنانية». ولكن مَن يضمن مِن الآن ماذا سيَحصل بعد ساعة؟

ومن يستطيع أن يرسم صورةَ الغد أو بعد غد؟

ومن يستطيع أن يرسم صورةَ القانون الانتخابي من الآن؟

ومن يجزم أنّ قانون الستّين سيبقى معمولاً به أم أنّ قانوناً جديداً للانتخابات سيتمّ وضعُه بتوافق القوى السياسية عليه؟ ومن يضمن أن تبقى التحالفات أو التفاهمات المعقودة أو الزواج السياسي بالإكراه، على ما هي عليه اليوم؟

ومن قال إنّ مَن بدأ يَشعر أنّ حجمه قد كبرَ في الانتخابات الرئاسية سيَكبر هذا الحجم أكثر في الانتخابات النيابية؟ وماذا لو جاءت نتائج الانتخابات النيابية المقبلة مخالفةً للتوقّعات ولم يتغيّر مشهد البلد ولا صورة التوازنات فيه؟ ولنفرض مِن الآن أنّه حتى ولو تمّ ربحُ الانتخابات النيابية المقبلة، فهل يمكن أن تشكَّل حكومة من أكثرية معيّنة أو من لون واحد؟ وهل تستطيع أن تتجاوز الصيغة اللبنانية المحكومة بالتوازات؟

– إنّ كلام رئيس الجمهورية عن الحكومة الحقيقية المؤجّلة إلى ما بعد الانتخابات ينطوي على رسالة سياسية إلى المعنيين، يبدو فيها وكأنّه ينأى بنفسه عن آليّات تركيب الحكومة المستنسخة من المراحل الماضية، ويوحي أنّه مسَلّم فيها من دون أن يتبنّاها أو يغطّيها.

– إنّ مجرّد القول إنّ الحكومة الجاري تشكيلها حكومة انتقالية أو حكومة 7 أشهر، هو إضعافٌ للعهد والحريري معاً، لا بل إساءة لهما.

– في المبدأ، الحكومة، أيّ حكومة، يُفترض أن تكون حكومة انطلاقة قوية للعهد، حكومة فاعلة ورافعة له وللبلد وتقوّي المناعة الداخلية أمام أيّ تطوّرات محتملة. وليس سرّاً أنّ حكومةً مِن هذا النوع هي في الدرجة الأولى مصلحة للعهد قبل أيّ أحد آخر.

وكذلك هي مصلحة لسعد الحريري الذي يريدها حكومةً يبني عليها لتؤسّس له في المرحلة المقبلة وتؤمّن له انطلاقةً قوية يذهب فيها مطمئنّاً إلى الانتخابات المقبلة. الحريري آتٍ إلى رئاسة الحكومة بعد غياب سنوات، فما معنى أن يرأسَ حكومة يجري تصويرُها قبل تشكيلِها بأن لا قيمة لها بالمعنى السياسي؟ وإن كانت كذلك لتركها لغيره.

– إنّ قوّة الدفع الحقيقية، يكتسبها أيّ عهد، مع تشكيل أوّل حكوماته، حتى ولو كان عمرها يوماً واحداً. وقوّة الدفع هذه لا تنتظر التأجيل، ولا نستطيع بالتالي أن نقول «قِف يا زمن أو انتظر إلى ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة لكي نُحيي قوّة الدفع أو نؤسّس لقوّة دفعٍ أكبر وأقوى بتشكيل حكومة على ضوء نتائج الانتخابات. إنّ قوّة الدفع تأتي مرّة واحدة، لذلك هناك لحظة متاحة مع الحكومة الحاليّة ينبغي التقاطها.

– إنّ عمر الحكومة الجاري تشكيلها يقال إنّه لن يتجاوز سبعة أشهر، وإذا افترَضنا حصول تمديد تقني لمجلس النواب لشهر أو شهرين أو ثلاثة، أو أكثر بقليل، معنى ذلك أنّ العمر الافتراضي للحكومة يقارب السنة.

وبالتالي ليس من الحكمة أبداً أن يتمّ التعاطي مع عمر الحكومة كوقتٍ مستقطَع يُمرَّر كيفما كان حتى موعد الانتخابات، ثمّ عن أيّ قوّة دفعٍ يمكن الحديث بعد 10 أشهر أو سنة من الآن، وقد تطرَأ وقائع تقوّي العهد، ولكن أيضاً قد تطرأ وقائع وأحداث قد تمتصّ وهجَ العهد وصورته. فلماذا نقع في المحظور منذ الآن؟

– الأكيد أنّ لرئيس الجمهورية أسبابَه لانتظار الحكومة الحقيقية المؤجّلة بعد الانتخابات، لكنّ البلد لا يستطيع أن ينتظر، وضعُه لا يستطيع أن ينتظر. لقد عاش البلد ما يزيد عن السنتين في فراغ رئاسي، وهناك تراكم هائل لمجموعة لا تنتهي من الأزمات السياسية والاجتماعية والحياتية والمعيشية والإدارية وغير ذلك، إضافةً إلى خَلل هائل في عمل المؤسسات، وعيون الشعب اللبناني المأزوم بهذا الكمّ الكبير من الأزمات، شاخصة إلى حكومة العهد الأولى ومتلهّف لعودة الدولة لأداء دورها، ولحكومة يريدها كاملة المواصفات تمتلك القدرةَ على العمل الفوري والإنجاز ومقاربة الأولويات المتراكمة على كلّ المستويات.

يبقى أنّ أوّل حكومة لأيّ عهد لا تنفصل أبداً عن العهد نفسه، ونجاحُها نجاحٌ له، وثمّة فرصة متاحة لها للإنتاج وتحقيق الإنجازات، وإطلاق عمل المؤسسات وإعادة إحياء الإدارة وأن تقوم بكلّ واجباتها الوظيفية في مقاربة كلّ العناوين الاقتصادية الخدماتية والإدارية والمعيشية والحياتية والبيئية، ولعلّها تستطيع أن تدخل التاريخ بإنجاز قانون جديد للانتخابات يُصحّح التمثيلَ ويتيحه لكلّ مكوّنات الشعب اللبناني… وهنا تكمن قوّة الدفع للعهد والحكومة وللبلد، التي قد لا تضاهيها قوّةٌ أخرى.