قد لا يُلام اللبنانيون على تراجع اهتمامهم بكل ما يتصل بتحركات او بمواقف ذات طابع دولي في شأن ازمة الفراغ الرئاسي لجملة اعتبارات وأسباب لا مجال لحصرها وانما يبرّرها التمادي الطويل في ترك لبنان بين أشداق الصراعات الاقليمية التي لا قدرة له على مواجهتها. ولكن ما يثير التعجب والدهشة هو ان يمر كلام للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي يكشف فيه للمرّة الأولى علناً ما حصل في خلوات بكركي مع الزعماء الموارنة السياسيين، في شأن اقتراحات لإنهاء أزمة الفراغ، من دون أي صدى وكأن التطبّع مع الفراغ صار ينسحب على من يعنيهم الخطر الأكبر منه اكثر من الجميع.
والحال ان ما نقلته “النهار” عن البطريرك في لقائه ومجلس نقابة الصحافة قبل يومين اكتسب اهمية خاصة لجهة الطبيعة المرنة للاقتراحات التي طرحها البطريرك على الزعماء الموارنة بحيث يفضي الأمر مبدئياً وعملياً الى انتخاب رئيس للجمهورية باتباع وسائل التصفية التدريجية في التنافس الديموقراطي على نحو مستقى تماماً من انتخاب الكنيسة لبطريركها، وهو مسار لا يمكن الطعن في ديموقراطيته من ناحية تناوب الهيئة الناخبة على استنزاف سائر الخيارات والعمليات الانتخابية المتعاقبة وصولاً الى انتخاب من تتوافر له الغالبية في نهاية هذا المسار الطبيعي . وما افصح عنه البطريرك ضمناً يتمثل في ان عملية كهذه تؤدي بطبيعة الحال الى واحد من خيارين: اما انتخاب أحد الزعماء الاربعة المعروفين ضمن فئة القادة السياسيين الاكثر تمثيلاً، واما انتخاب مرشح “توافقي” من خارج هذا النادي.
ما كان لهذه الآلية ان تشكل أي دلالة خاصة لو لم يكن كاشفها البطريرك الراعي شخصياً ولو ان أياً من الزعماء الاربعة لم ينفها. بذلك يكون البطريرك، وعلى رغم الواقع المأزوم الذي انسحب على موقعه جراء تعقيدات الأزمة، الرئاسية، قد كشف بكلامه هذا الجانب الآخر من الأزمة وهو التراجع المخيف في النبض الديموقراطي الذي ضرب واقع بلد، كان حتى في عزّ حقبات التدخلات الخارجية في اختيار رؤسائه، يعرف كيف يدوزن اللعبة بين وقائع التدخلات وموجبات الحفاظ على ماء الوجه في اللعبة الداخلية. فحتى هذه “الميزة” السلبية بطبيعة الحال تندثر الآن مع تراكم الاشهر تباعاً في أزمة الـ 300 يوم، ولا نرى ولو مجرد حراك داخلي خجول يسعى فعلا الى كسرها. ولعل الأنكى والأدهى ان يضحي الكلام عن اتباع الأصول الديموقراطية كأنه من تراث آفل ذهب مع الزمن اللبناني الجميل الذي يضرب في اللبنانيين الحنين الى ماض لن يعود. يصح في ذاك الحنين الوجع حيال انهيار حضاري وثقافي، ولكن ضرب آخر “طقوس” الديموقراطية سيعني الأخطر لأن موت النبض هنا هو إجهاز على كل إمكانات إنقاذ ما راح وما بقي.