IMLebanon

أحداث رافقت تاريخ لبنان السياسي من الاستعمار الى الوصاية

أحداث رافقت تاريخ لبنان السياسي من الاستعمار الى الوصاية

جمهورية تتوقع رئيساً وتواجه رهانات غامضة

والصراع مستمر حول الدستور والمشاريع الانمائية والانقاذية

كان الأستاذ الكبير سعيد فريحه، يردد دائماً أن لا دولة حقيقية في لبنان، قبل الانتصار على عقبتين أساسيتين فيها، هما آثار الانتداب والفساد. فيعتبر الأولى مناهضة للحريات، والثانية مرادفة للقمع والارهاب، ومنافية للاصلاح.

والاصلاح، الذي عناه سعيد فريحه، كما درج على قوله، الأستاذان الكبيران مارون عبود وسعيد عقل، يتناول حرية الانسان، وحرية السلطة، وحرية بناء الدولة؛ لأن فقدان الثلاثة يحول دون اقامة الدولة التي بشَّر بها الرئيس فؤاد شهاب الذي لجأ الى العزوف، لأنه أدرك أن الطبقة السياسية تمالئه ولا تريد أفكاره.

ويقول الأستاذ الياس ربابي إن سعيد فريحه قاد الفكر الاصلاحي، من حلب الى بيروت، ومن الصحافة السورية الى الصحافة اللبنانية، عبر الصياد والأنوار وصحف دار الصياد، وخاض معارك الاستقلال مع بشارة الخوري ورياض الصلح. ولم يتورع عن مناوأة الرئيس الاستقلالي الأول، حتى اضطر شقيقه السلطان سليم الى الاستقالة من النيابة، لأن قلم سعيد فريحه طارده في أوكار الفساد، حتى حمله على الاستقالة من البرلمان، حيث كان نائباً، وهو شقيق لرئيس الجمهورية، ويشوّه صورة الجمهورية.

والآن، أي جمهورية يُخيّم ظلها على لبنان؟ هل هي جمهورية المنافع والمفاسد التي عرف لبنان نماذج سيئة عنها في بعض الحقبات أو في معظمها، أم جمهورية من دون جمهور، أم جمهورية تبحث عمّن يرئسها ويقودها الى الاصلاح والحرية؟

وفي حين يتصارع الطامحون الى رئاسة الجمهورية، حول هوية الجمهورية، يجد الناس أنهم بحاجة الى جمهورية الناس التي تعطيهم ما يطالبون به، من اصلاحات اجتماعية وقضايا انسانية، أم جمهورية من عالم آخر غير العالم الذي عرفوه.

كان الدكتور شارل مالك واضع شرعة حقوق الانسان في الأمم المتحدة، يقول في أواخر أيامه، إنه في مقدمة فلاسفة عصره، وأصبح وزيراً لخارجية لبنان، ورئيساً للأمم المتحدة، ويقول آخرون إن آخر الفلاسفة في هذا العصر هو الدكتور أديب صعب الاستاذ الشهير في جامعة البلمند والصديق للبطريرك يوحنا العاشر اليازجي، والعزيز على قلب المتروبوليت جورج خضر، مطران أبرشية جبل لبنان، الذي كان طوال حياته يصنع البطاركة والأساقفة، ويقيم بين مدينة الميناء الطرابلسية ومدينة برمانا، بعدما هدمت خلال الحرب على لبنان مطرانية جبل لبنان في الحدث.

كانت مجموعة من أصدقاء المطرن الجليل، في باريس عاصمة الجمال والأناقة، عندما أخذ المطران جورج يُشيد بمواهب أديب صعب، وكأن فيلسوفاً شارف على التسعين، يتذكر أيامه من خلال شاب يشارف على الخمسين عاماً، ويبعد نفسه عن عظمة الأفذاذ من رواد الفكر والأدب، وهو يتابع رحلته مع الابداع والفكر الفلسفي.

طبعاً، يحرص أستاذ الفلسفة على أن ينأى بنفسه عن الفلسفة الحديثة حيث لا فلسفة حقيقية كالتي أضحت من حواضر العصر، لكنه يبقى رائد الفكر الفلسفي الذي كان من أوائلهم شارل مالك، وهو يحتل أرفع درجات الأصالة ويجسد دور الفيلسوف والعالِم.

هذا في السياسة. أما في الفكر السياسي، فإن الصراع يدور الآن، بلا هوادة، حول فلسفة الجمهورية، ذلك أن رواد الحداثة السياسية يدورون حول جوهر الجمهورية حيناً، أو حول دستور الجمهورية أحياناً، وهذا ما جعل التباين يتركز حول المحتوى الدستوري أو القانوني للجمهور والجمهورية، قبل اتفاق الطائف أو بعد ولادته.

وبطريقة أكثر وضوحاً، يبرز الصراع بين المرشحين للرئاسة الأولى، حول أسلوب الحكم وطرائقه، ولا سميا في خضم تطورات تجتاح العصر السياسي اقليمياً وطائفياً وسياسياً، وانمائياً وحياة عادية.

ذلك ان الحكم في لبنان، بدأ الصراع فيه ثنائياً عند قيام دولة الاستقلال وأضحى ثلاثياً بعد الطائف ولا سيما بين الطائفتين الاسلاميتين السنية والشيعية، وبين النوعية والأكثرية العددية.

إلا أن الصراع بدأ يتجاوز الأحداث، وفي كل يوم حدث، ولكل حدث أفق، وكأنَّ الزمان تحوّل الى مسرح تُمثَّل على رقعته تطورات المنطقة. واذا كان العماد عون يخوض غمار المستقبل من خلال المفاهيم الدستورية، فإن النائب والوزير السابق سليمان فرنجيه أعلن ترشحه للرئاسة الأولى عبر قضايا اجتماعية، أبرزها الكهرباء والماء والطرقات وعجقة السير، في حين أن زعيم التغيير والاصلاح يركز طموحه الرئاسي على الدور السياسي، من خلال ممارسة تطلعاته السياسية والدستورية.

إلا أن النائب فرنجيه ينتظر اعلان ترشيحه رسمياً من قبل الرئيس سعد الحريري، بينما يتكئ الجنرال على دعم حليفه الأساسي حزب الله.

ثمة نقطة أساسية في المعركة، ألا وهي أن النائب فرنجيه يتفق مع الثامن من آذار على تأييد العماد عون، حتى يعلن عزوفه عن خوض المعركة، ولكن الجنرال يؤكد استمراره فيها، ولو بقي وحده في المنازلة الانتخابية.

وهكذا تضاءلت نسبة التفاهم وازدادت مستويات التوتر بين الجنرال والنائب الزغرتاوي، وبرزت قضايا اقليمية في المعركة أبرزها الحلف ضد الارهاب المعلَن من ٣٥ دولة، بقيادة المملكة العربية السعودية.

والنائب فرنجيه يتمتع بصداقة صلبة من جانب الرئيس السوري بشار الأسد، وزعيم حزب الله السيد حسن نصرالله، لكن الأولوية عند الرئيس الأسد والسيد نصرالله هي للعماد عون في هذه المرحلة، لكن لا أحد يضمن عدم تغيّر أو تبدّل المعادلات في الأيام المقبلة.

إلا أن اللبنانيين، وفي مقدمتهم بكركي، باتوا يشعرون بأنهم أخذوا يعتادون على استمرار الأوضاع في لبنان من دون وجود رئيس للجمهورية، وهذا الأمر اشتد بعيد مرور عام ونصف العام، ولبنان من دون رئيس يقوده، وفي ظل فراغ يدفعه الى المجهول.

وفي هذه الحقبة، أطلَّ الكاتب الكبير سليم نصّار بدعوة تشير الى أهمية قيام المنظمات الدستورية في كل بلد عربي، ويأتي في الطليعة لبنان. والكاتب الذي غادر كوسبا مسقطه ويعيش الآن في أوروبا، يشدد على انطباعاته السياسية من خلال جولاته في عدد من الدول العربية، ويقول إن الدستور هو أساس الوجود السياسي في كل بلد.

في الأسبوع الفائت، صدر للكاتب سليم نصّار كتاب عنوانه خارج الموضوع في أسبوع الكتاب، يروي فيه مذكرات عن أشخاص عرفهم وعرفوه من أهل السياسة في لبنان ودنيا العرب.

والكتاب يضم أحد عشر فصلاً من مواد قديمة، إلا أنها جديدة على القرّاء، منها الفصل المتعلق بالدكتور جورج حاتم، الطبيب الأميركي، اللبناني الأصل الذي هاجرت عائلته من بلدة حمانا المتنية الى الولايات المتحدة، وكانت حياتها في العالم الجديد متواضعة، لكن هذا لم يمنع ابنها البار من الدراسة في الجامعة الأميركية والولايات المتحدة، ثم من السفر الى الصين ليصبح الطبيب الخاص للزعيم الصيني ماوتسي تونغ، ويشفي عشرات الألوف من سكان العالم الأصفر من مرض البرص الذي أصاب أكبر بلد في العالم. ويروي قصته مع سفيتلانا ستالين الابنة الوحيدة لجوزيف ستالين الذي حكم روسيا خلال الحرب العالمية الثانية.

ويروي سليم نصار لأحد أصدقائه، كيف ذهب الى الجزائر العاصمة بعد استقلالها عن فرنسا، لاجراء حديث مع رئيسها الجديد أحمد بن بيلا، فيما كان الفرنسيون يتابعون مفاوضاتهم مع الحكومة الجزائرية الموقتة برئاسة عباس فرحات ونائبه كريم بلقاسم.

إلا أنه، بمبادرة من الجنرال ديغول، سلمت فرنسا السلطة الى بن بيلا. لكنه خلال الحوار معه، كان يتشاور مع هواري بومدين القائد العسكري للثورة، مما جعله يتأكد بأن الرئيس الجديد للبلاد رمز أساسي وان القائد الفعلي للثورة هو هواري بومدين، أحد القادة الخمسة للثورة الذين خطفتهم فرنسا، بعد اسقاط الطائرة التي كانت تقلهم، في الأجواء بين تونس والجزائر وقامت باعتقالهم.

وعند عودة الزميل سليم نصار الى بيروت كتب مقالاً عنوانه: احفظوا هذا الاسم: هواري بومدين… الذي سيصبح قائداً ورئيساً للجمهورية الجزائرية.

وعندما أطيح بالرئيس بن بيلا في انقلاب عسكري، أعاد نشر المقال وانتهت أسطورة بن بيلا، وبدأ عصر هواري بومدين.

عودة الى الجمهورية

في الأسبوع الفائت، أصدر نزار يونس كتاب جمهوريتي ويروي فيه فصولاً عن جمهورية راودته معالمها منذ نصف قرن.

في الكتاب أضغاث أحلام عن جمهورية حلم بها شاب وراودته أفكار عن وطن أحبه، ويعيش على أحلام في أحلام رجال كبار من بلدته تنورين في شمالي لبنان وخرج منها رجال كبار، كانت الجمهورية الفاضلة تدغدغ أحلامهم، وفي مقدمتهم المرحوم والنائب السابق مانويل يونس، والوزير الحالي والمحامي الشيخ بطرس حرب الذي يتولى الآن وزارة الاتصالات.

طبعاً، راودت نزار يونس أحلام عاشت معه في أيام شبابه، لكن الأعمال العمرانية خطفته الى عالم رجال الأعمال.

التقاه الأمين العام الراحل لوزارة الخارجية فاروق ابي اللمع والمحامي جورج جبر والدكتور عبدالله الزاخم رئيس جمعية المصارف اللبنانية، وكانوا في رحلة الى باريس، من أجل وضع مانيفست اصلاحي بين الزعماء الموارنة وبينهم الرئيس أمين الجميل والعميد ريمون اده، وقد استطاعوا جمع ثنياتهم على الورق، من دون دفعهم الى اللقاء، وقد حضر العميد اده من مصيفه على المحيط الأطلسي، الى باريس للمشاركة في وضع ورقة اصلاحية قبل انهيار الجمهورية.

إلا أن نزار يونس، ظل، وهو في آفاق الأعمال، رجل طموحات يحلم ب جمهورية جديدة غير التي عرفها التقليديون.

ومن خلال مطالعة كتاب جمهوريتي يدرك المراقب أنه كان يحلم بجمهورية غير التي عرفها لبنان، بعد الاستعمار أو الانتداب الفرنسي.

هل الجمهورية هي مجرد حلم؟

لا، إنها أحلام تراود الأفكار ويصنع فصولها الانسان عبر الواقع القديم والحديث.

كان الأستاذ حبيب أبو شهلا يروي دائماً، أن رجالات عصر الاستقلال، والذين رافقوا رحلات البطريرك الياس الحويك وسواه، يعرفون لبنان على حقيقته سواء في خلال محادثات قصر فرساي أو قصر الاليزيه تركوا للأجيال الراهنة تراثاً في السياسة لا يتكرر، لأنهم عرفوا خلال الأيام الغابرة، معاناة البلاد للاحتلال، ولما حدث، وأثناء الانتداب وبعده في عصر الاستقلال، لكنهم أضاعوا فرصة للانقاذ لو أدركوها، لما استسلموا لما بعدها من ترهات.

وربما كان أبو شهلا يريد أن يقول إن استسلام اللبنانيين، من دون أن يقول ذلك، للوصاية السورية، كان الكارثة الكبرى في تاريخهم الحديث.

ويقول نزار يونس إنه على رغم الانفصام الكامل عند السياسيين في ما بين خطابهم الناقد للنظام السياسي الطائفي من جهة، وما بين ممارستهم الرامية الى ترسيخ هذا النظام وإضفاء الشرعية على وجوده، من جهة أخرى. لا بد من الاجابة بمسؤولية ودقة عما اذا كانت لدى الاجتماع اللبناني الفرصة والارادة للعيش معاً في جمهورية زمنية محررة من العصبيات والانتماءات والولاءات الفئوية؛ وعما اذا كانت لدى طوائف لبنان الرغبة في استعادة دورها ككيانات روحية وثقافية والابتعاد عن النزاعات السياسية. أسئلة مطروحة منذ نشوء النظام السياسي الطائفي ولا تزال تنتظر الجواب.

للدولة، في علم السياسة مقوّمات ثلاثة: هي الوطن والشعب والنظام السياسي. الأوطان ليست حقيقة تجريدية أزلية، كونها تجسّد ارادة اجتماع ما، في زمان ما ومكان ما، للعيش معاً، وللانضواء الارادي في مشروع مستقبلي لتحقيق رغده وسعادته. إن إخفاق الدولة في مهامها يستدعي البحث عن أساس العلة، فهي ليست في الوطن الذي يتساوى الجميع في التعلّق به، وهي ليست في الفرد اللبناني المتميز في أخلاقه، والمتفوق في خُلقه، الصلب والصبور، المنفتح والمتسامح، الذي لولاه لما استمر هذا الوطن، ولا قُدِّر له أن ينتشر ويتألّق في أصقاع الأرض، ولما أُعطينا فرصة لدحض الادعاءات الخبيثة التي تشكك في طوية المواطن المغيّب، وتدّعي تخلّفه وفساده وأنانيته، بغية تجهيل المسؤول الحقيقي عن واقعنا المتردي.

إن لم تكن العلّة لا في الوطن ولا في الشعب، فلا بد من ان تكون في نظامنا السياسي الطائفي المدان من الأطراف كلهم، في المعلن على الأقل. من الطبيعي ان يقود تقاسم الدولة بين الطوائف الى احتدام الصراع في ما بينهم على حجم الحصص التي تعود الى كل منها، ما يقود تلقائياً الى الإحتكام الى موازين القوى الطائفية المتغيّرة باستمرار تبعاً للتحالفات والتحولات الداخلية والخارجية، مما يفضي في النهاية الى الإنزلاق نحو النزاعات والتوترات والحروب الأهلية الدورية.

إذا كان من غير الوارد ومن غير المطلوب استبدال الوطن بوطن آخر، او استبدال الشعب بشعب آخر، لا يبقى لنا إلا خيار واحد، هو استبدال نظامنا السياسي الطائفي، المعتلّ في تكوينه والمختلّ في آلية عمله، والذي بنى شرعية وجوده على عقد ضمني استوحى أدبياته من اعراف ومسلّمات ومواثيق ظرفية، كوّنتها ذاكرة العيش المشترك والمعاناة وصراع البقاء، ما رسّخ لدى اللبنانيين قيم المحبة والحرية والتسامح والإنفتاح على الحوار للتبادل والتواصل وقبول الآخر. لكن العقد الميثاق الناظم للعيش معاً ظلّ ضبابياً، وبقيت تفاهماته عرضة لم تتوافر لها مرجعية ميثاقية لا غموض فيها ولا إلتباس، أعني بذلك العقد الاجتماعي المكتوب النزيه والدائم والمعترف به وغير القابل للإنتقاص.

نشأ نظام المحاصصة الطائفية في أواسط القرن التاسع عشر في ظل واقع حماية او رعاية اجنبية، وفي ظل تغييب الإرادة الوطنية، واستمر الأمر كذلك في فترة الإنتداب تحت عباءة الجمهورية الفرنسية وفي الفترة التي تلت، حيث تغاضى الأطراف في مجتمعنا التعددي مداورة، ووفقاً لظروفهم وتحالفاتهم الخارجية ومشاريعهم الفئوية، عن التسليم بتنوّع الاجتماع اللبناني ومراعاة خصوصيات فئاته من جهة، كما حاول هؤلاء الاطراف ابقاء اسس الشراكة في الوطن ضبابية، مكتفين بإعلان نوايا عامة عرضة للتجاذبات والتفسيرات والإنحرافات، من جهة أخرى.

ويقول نزار يونس: ندّعي أننا نمارس عيشنا معاً في كنف جمهورية ديموقراطية من المفترض ان تؤمّن المساواة بين الأطراف المكوّنين لقاعدة البناء الديموقراطي في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص. ولكننا نتحاشى طرح الاسئلة المحرجة التي لا جواب موضوعيا عنها في غياب المرجعية الميثاقية، والتي يشكل تجاهلها والإلتباس حولها علّة نظام المحاصصة، والسبب المباشر في تعثّره وتعطيل أدائه. فمن هم الأطراف المتعاقدون الذين يشكلون قاعدة البناء الديموقراطي في نظام المحاصصة؟ هل هم الكيانات الطائفية الخاصة بالمذاهب الثمانية عشر المعترف بها؟ وما هو التحديد القانوني للكيانات الطائفية؟ وما هي المعايير التي يعتمدها النظام الطائفي لتأكيد المساواة بين هذه الكيانات الطائفية؟.