Site icon IMLebanon

الأحداث من حقبة الانتداب الفرنسي الى مرحلة الوصاية السورية

 

القصر الجمهوري يواجه أزمة شغور وفراغ

والموفدون الى لبنان لا يملكون الا تقديم النصائح

عندما سأل مرجع سياسي، عن الموعد المتوقع لانتخاب رئيس الجمهورية الجديد، فوجئ بجواب غامض، لا يتوقع ولا يوحي بوجود رئيس الا والوطن على أبواب الربيع المقبل.

الا ان المرجع نفسه، سأل ثانية عما اذا كانت القمم السياسية، ستسفر عن تقريب الموعد، فجاءه الجواب بأن القمم جميعاً، تترتب عليها معظم الاحتمالات.

في الأسبوع الفائت، كانت قمة اسلامية في عين التينة، بدعوة من الرئيس نبيه بري ضمت تيار المستقبل وحزب الله وتبعتها مجموعة قمم متفرقة الهوى، متفرعة الطوائف، فرضتها ظروف عيد ميلاد السيد المسيح، كان أبرز عناصرها قدوم الرؤساء أمين الجميل، تمام سلام، ميشال عون، وليد جنبلاط، وممثل الرئيس سعد الحريري.

وكان اللقاء في عين التينة بين الرئيس نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء تمام سلام، فرصة أساسية للتداول في الشأن الرئاسي، خصوصاً وان رئيس الوزراء ابان الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية، يمثل عملياً السلطة التي كان يشغلها رئيس البلاد.

هل هذه اللقاءات تمثل تمهيداً طبيعياً ل الاتفاق على الرئيس العتيد، خصوصاً وأن سبعة أشهر انقضت على الشغور، وسط مساع كثيفة من سفراء الدول الكبرى، لترطيب الأجواء الداخلية وتسهيل التوافق على الرئيس العتيد.

ولعل أبرز ما هو متوقع، هو انعقاد اللقاء المرتقب بين الرئيس العماد ميشال عون ورئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، لسبر أغوار احتمالات التوافق، إما على اسم العماد عون، أو الاتفاق على مرشح ثالث غير الاثنين.

سؤال لا بد منه: هل يفكر الكاردينال الراعي في قمة رباعية جديدة في بكركي، تضم الرئيسين امين الجميل وميشال عون، والوزير السابق النائب سليمان فرنجيه والدكتور سمير جعجع، لاتفاق على واحد من الأربعة الكبار واستطراداً في اختيار اسمين متداولين هما الأستاذ جان عبيد أو السفير اللبناني لدى الفاتيكان جورج خوري، أم بواحد من اثنين آخرين هما حاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة، أو قائد الجيش العماد جان قهوجي؟

وفي حال تعذر ذلك، فإن البحث سيستمر عن المجهول الذي تقع عليه التسوية الرئاسية، ويصبح من ثم معلوماً من الجميع.

الا ان الكاردينال الراعي يؤكد أنه ليس عنده مرشح، أو تزكية لأي كان، أو حتى انه لن يفتح ذراعيه لأحد من الأسماء المغمورة.

كان الرئيس تمام سلام أمس، يستقبل المواطنين كعادته صباح كل يوم أحد، في دار المصيطبة، التي أحاطت بها وفود شعبية كثيفة وعناصر كثيفة من قوى الأمن الداخلي.

جلس تمام بك في صدر صالون البيت وهو يرتدي قميصاً سبور ويتحدث الى جمع غفير من الصحافيين والمواطنين، الا ان الابتسامة رافقت ترحيبه بالوافدين وأحاديثه الى الجميع.

وببشاشة عرف بها، وحوار أصبح مفطوراً عليه، راح يحث الوافدين، تحت صورة والده صائب بك سلام، على الجلوس، والبيت الضيق يتسع لألف محب وزائر.

راح حامل اختام الدولة السلطة، وعنوان وحدتها، في غياب رئيس الجمهورية منذ أكثر من عشرين يوماً بعدد المئتي يوم، يدعو الوافدين اليه للجلوس، ولا تفوته الملاحظة بأن الأمطار تهطل في الخارج، وهو يردد: لا أريد أن تغمر الأمطار أحداً، صحيح ان الله يجود علينا بالخير، لكنني أريد شيئاً أساسياً، وهو أن تلتئم القلوب وتتفق النفوس الظمأى الى التوافق على رئيس جمهورية يقود الى جمهورية واعدة، تفيض بالخير على لبنان، وهذه ليست ارادتي وحدي، بل ارادة اللبنانيين جميعاً، ولا أعتقد أن أحداً ضنين على البلاد، بمثل هذه الأمنية.

هل تتكرر تجربة الرئيس سليمان فرنجيه العام ١٩٧٠، عندما اختارته كتلة الوسط النيابية، المؤلفة منه ومن الرئيس كامل الأسعد، والرئيس صائب سلام ورشحته للرئاسة، وفاز بأكثرية صوت واحد ٥٠-٤٩؟

يصادف موعد الانتخاب، مع مرور ربع قرن تقريباً على انجاز اتفاق الطائف على أيدي ٦٢ نائباً، جمعتهم الارادة الدولية في مدينة الطائف السعودية واستطاعوا، بعد شهرين تقريباً من المداولات، الاتفاق على الرئيس الراحل رينه معوض، فحضروا من السعودية الى باريس، ومنها انتقل بعضهم الى قاعدة القليعات، وانتخبوا رئيساً للجمهورية.

كان اتفاق الطائف مفصّلاً على حجم الرئيس رينه معوض، الا ان اغتياله يوم عيد الاستقلال بعد الاحتفال بالعيد، محاطاً بالرئيسين حسين الحسيني وسليم الحص، قد بدد الآمال المعلّقة على الرئيس الجديد، لبناء لبنان الحديث.

الا ان الارادة السورية أوعزت بانتخاب الرئيس الياس الهراوي في اليوم التالي في شتورا بارك اوتيل، وانتقل الطائف من الحضانة السعودية الى الوصاية السورية.

والمفاجأة، كانت الاجتياح العراقي لدولة الكويت، وقيام تحالف عربي لسحب الجيش العراقي من الكويت، ومشاركة الرئيس حافظ الأسد في الجيوش التي أرغمت الرئيس العراقي على مغادرة لؤلؤة الخليج.

وكان ل العداء التاريخي بين حزب البعث العراقي بزعامة صدام حسين، وحزب البعث السوري بقيادة الأسد، دور أساسي في بلورة تجمع دولي – اقليمي مناهض للعراق الذي بادر الى تقديم أسلحة الى العماد عون والدكتور جعجع في لبنان، والتمهيد لاحقاً للغزو الأميركي للعراق، بأوامر من الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش.

وهكذا، وضع الأميركيون أيديهم على العراق، وبسط السوريون نفوذهم على لبنان، الا ان السلطة اللبنانية فقدت دورها وحل مكانها دور سوري، شدد من هيمنته ونفوذه على لبنان.

ونشأ في بيروت حكمان: واحد برئاسة الرئيس الهراوي، وقيام ترويكا سياسية قوامها الهراوي والرئيس حسين الحسيني والرئيس سليم الحص، وأخرى في بعبدا واليرزة، بزعامة قائد الجيش ميشال عون الذي عيّنه الرئيس الجميل رئيساً للحكومة الدستورية السداسية عشية انتهاء ولايته. بيد أن السوريين دفعوا نصف الحكومة المؤلفة من المجلس العسكري الى الانسحاب منها وبقي الثلاثة المسيحيون فيها وهم: العماد عون، اللواء عصام ابو جمرة، واللواء ادغار المعلوف.

ظل الرئيس الهراوي يدعو الحكومة الى ازاحة العماد عون بالقوة، الا ان رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص ظل يعارض اللجوء الى ازاحة عون بقوة السلاح، ويطالب بمقر مستقل لمجلس الوزراء، الى أن ذهب الى دمشق، وصارح الرئيس الأسد، برغبته في تقديم استقالته، لتعذر التعايش مع رئيس الوزراء، وهناك جرى الاتفاق بين الرئيسين الاسد والهراوي على الطلب من الرئيس الحص الاستقالة، واختيار وزير التربية في حكومته عمر كرامي للحلول مكانه.

أزيح العماد عون عسكرياً بضربة عسكرية قام بها الطيران السوري، ووقع التغيير الذي استمر ثلاث سنوات، لانتقال الرئيس الهراوي من المقر الرئاسي الموقت الى القصر الجمهوري بعد تصليحه من الدمار والخراب.

وهكذا، اعتمد السوريون التمديد للرئيس الهراوي ومن بعده للرئيس العماد اميل لحود ولاية ونصف ولاية.

هل يبقى القصر الجمهوري الآن مهجوراً، بعد مرور سبعة أشهر، على الفراغ؟

وهل غابت اللعبة السياسية عن الحياة اللبنانية؟

طبعاً، كان صدور القرار ١٥٥٩ عن مجلس الأمن الدولي، ملزماً للسوريين بمغادرة لبنان، بعدما ظلوا خمسة عشر عاماً يعارضون الانكفاء الى سهل البقاع وفقاً لاتفاق الطائف. الا ان اشتعال الحرب داخل سوريا منذ أربع سنوات تقريباً، جعل الأزمة تزداد على لبنان وسوريا، في ظل النزوح السوري الكثيف اضافة الى الوجود الفلسطيني.

كيف كانت الأمور تجري، في ظل الانتداب الفرنسي، وكيف استطاع البلدان، لبنان وسوريا، معالجة الأمور مع الفرنسيين.؟

كان الصرح البطريركي الماروني، مركز الثقل في السياسة اللبنانية، خصوصاً في مرحلة ما قبل نيل لبنان استقلاله عن فرنسا. ويروى في هذا المجال، ان مؤتمراً وطنياً انعقد في بكركي برعاية البطريرك انطون عريضه، جمع ٥٠٠ شخصية من جميع الطوائف، وصدر بيان بمساعدة الحكومة ضد شروط فرنسا التفاوضية حول ما يحدث في البلاد.

الا ان الحكومة التي كان يرئسها عبد الحميد كرامي، نقلت المعركة الى قلب جامعة الدول العربية. وتطور الحدث الى أن أصبح قيد التدويل.

تعقد الموقف وتباينت الأفكار بين بريطانيا وفرنسا، خصوصاً بعد نشر وزير الخارجية الفرنسي جورج بيدو مذكرة جاء فيها ان فرنسا يجب أن تحتفظ بقواتها في لبنان وسوريا ريثما يصدر قرار دولي بانهاء انتدابها على هذين البلدين. وعلى الفور اتصل الرئيس بشارة الخوري بالرئيس السوري شكري القوتلي واتفق الاثنان على عقد اجتماع يوم السبت ١٩ ايار ١٩٤٥ في فندق مسابكي في شتورا. واصطحب الشيخ بشارة معه وزير الخارجية هنري فرعون، ولكن طال انتظار الرئيس القوتلي ووزير الخارجية السوري جميل مردم بك، وساورت الهواجس الشيخ بشارة والرئيس عبد الحميد كرامي، وهنري فرعون، ووصل الرئيس السوري بعد ساعتين، واعتذر عن التأخير بحكم حوادث وقعت بين الأهالي في دمشق.

ويروي بشارة الخوري في مذكراته، ان الخوف ارتسم على الاستقلال، لكنه تصرّف على خطين، وركّز على أمن الشارع اللبناني، بعد وصول أخبار عن اقتحام البرلمان السوري في ساحة المرجة، وتعرّضه للتخريب.

وأثناء جولة الشيخ بشارة الخوري جرت طمأنة اللبنانيين، على نبذ الاشاعات التي تتحدث عن عودة الانتداب الفرنسي، بعد انتصار الحلفاء على هتلر، واستقل رئيس الجمهورية سيارة مكشوفة وراح يطوف بها الشوارع.

وظهرت مواقف لبنانية، وانتشرت برقيات تندد بمواقف جورج بيدو، وألقى الوزير هنري فرعون خطاباً يندّد فيه بارسال المدرعة الفرنسية جان دارك وعلى متنها ١٢٠٠ جندي سنغالي، رافضاً أي تفاوض تحت الضغط.

ومما قاله هنري فرعون في ختام كلمته: ثقوا، يا ممثلي الأمة، ان موقفنا واضح، ولا يعتريه أي اتهام أو غموض، ان لبنان بلد مستقل، ذو سيادة، واننا سنحافظ عليه وعلى سيادته، ولا نقبل بأي تطاول على السيادة.

كان يبدو واضحاً من كلام فرعون انها من نهج بشارة الخوري… وثمرات قلمه.

جلسة نيابية رائعة

كانت جلسة وطنية بامتياز ترافع فيها عن استقلال لبنان وسيادته من النواب: رياض الصلح وحبيب أبو شهلا وسعدي المنلا وصائب سلام وكمال جنبلاط ورفعت قزعون، واميل لحود وعادل عسيران، ومحمد الفضل نائب الجنوب، ووضعوا بذلك سياجاً دستورياً حول حكومة عبدالحميد كرامي، وسياستها الوطنية.

هنا اتجه الى المنبر رئيس الحكومة عبدالحميد كرامي وسط هالة من التصفيق، وقال انه يشكر الأمة جمعاء على هذا التأييد المنقطع النظير، ثم طرح موازنة وزارة الدفاع الوطني على الاقتراع، وهنا نهض جميع النواب نهوض رجل واحد، ومعهم أعضاء الحكومة، ليطلقوا النشيد الوطني كلنا للوطن للعلى للعلم، تحية للفوج الجديد في الجيش بعدد خمسة آلاف رجل.

إذ ذاك علا صوت النائب حبيب أبو شهلا هاتفاً: يحيا رئيسنا المفدى الشيخ بشارة الخوري.

وردد النواب والحضور وراءه: يحيا… يحيا!

وإذ ذاك تحركت مطرقة الرئيس صبري حمادة، وقال:

– الباب الثالث عشر: وزارة الدفاع الوطني. فصل وحيد. البند الثاني: نفقات الجيش خمسة ملايين ليرة كان المبلغ ثروة طائلة يومئذ. يصار الى التصويت عليه وقوفاً. من يقبل فليقف.

ووقف الخلق جميعاً فخبط صبري حمادة مطرقته وقال: اجماع. قُبل بالاجماع!

كانت تلك الجلسة لا تقل مهابة وتنزيلا في التاريخ عن جلسة تغيير العلم اللبناني يوم ١١ تشرين الثاني ١٩٤٣، رغم العوائق التي أحدثتها حراب الجنود السنيغال.

كانت أخبار الحوادث الدامية في دمشق تترى في بيروت ومدن لبنان، وخصوصا تلك القريبة من الحدود السورية، مثل شتورة، وعكار. واستدعت المحنة السورية عقد جلسة لمجلس النواب يوم التاسع والعشرين من أيار، وكانت شاهدا جديدا على التضامن الأخوي اللبناني مع سوريا، وكانت لرئيس الوزراء عبدالحميد كرامي خطبة شرح فيها موقف لبنان من أحداث دمشق، معتبراً كل نقطة دم تهرق في سوريا هي نقطة دم لبنانية أيضا، وتحدث عن الاحتجاجات التي أرسلها الى الدول الحليفة.

كانت المفاجأة التي حملها اليوم التالي، وصول سعدالله الجابري رئيس وزراء سوريا، وعمّ السيدة فايزة عقيلة الرئيس رياض الصلح، وطلب الاجتماع بالشيخ بشارة الخوري في السراي، حيث قال له: ان ما يجري في سوريا يجب ان يلفت أنظار العالم.

وعقب الشيخ بشارة: اسمع يا دولة الرئيس، نحن وسوريا واحد، واذا ما اشتدّت الأزمة عليها، ازدادت على لبنان، ولذلك تستطيع أن تعتبر نفسك في بيتك، وسأفرد لك جناحاً خاصاً في هذا القصر لتبيت فيه.

وشكر سعدالله الجابري الشيخ بشارة على عاطفته، وقال له لقد حجز لي رياض الصلح غرفة في النورماندي.

وحتى سفر سعدالله الجابري الى الاسكندرية، لقي الرجل من الرئيس الخوري وحكومة عبدالحميد كرامي ونسيبه رياض الصلح وسامي الصلح وعبدالله اليافي كل حسن وفادة وتكريم.

وظهر يوم الاثنين، يوم انعقاد المؤتمر الوطني في بكركي للتضامن مع سوريا، أطلق رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل بياناً أكد فيه الدعم لوقف الاقتتال في سوريا،

ولم يكتف رئيس الوزراء ونستون تشرشل بهذا التدخل السياسي، بل أجرى اتصالا بالرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، وأصدر الاثنان بيانا يطلبان فيه من فرنسا اعادة النظر في سياستها داخل المنطقة.

وقد جاء الانذار البريطاني وكأنه متنفس للصعداء في صفوف السوريين واللبنانيين. فقد ذكر الأمين العام للمندوبية الفرنسية الجنرال باينه ان اثني عشر فرنسيا قتلهم المقاومون السوريون بعد وقف اطلاق النار، يوم ٣١ أيار، وان محاولات عبث بالأمن ظهرت عند منطقة البسطة في بيروت، نتيجة لتوزيع مناشير بتاريخ ٨ حزيران يونيو تطالب الفرنسيين الذين كانوا يقيمون في تلك المنطقة ان يرحلوا ضنّاً بحياتهم. وتخوف فريق آخر من ان يكون رحيل هذه العائلات الفرنسية المقيمة هناك مقدمة لقصف البسطة.

ويوم الرابع عشر من حزيران صدر عن الشيخ بيار الجميّل رئيس حزب الكتائب بيان جاء فيه: مهما كانت عواطفنا نحو فرنسا، فنحن لبنانيون أولاً. ونريد ان نكون أحراراً بكل معنى الكلمة.

وكان الشيخ بيار بعد عرض لكشافة الكتائب في كورنيش النهر، قد صرح لمندوبي جريدة فرانس سوار الباريسية: نريد ان نعيش في دولة حرة. وكنا نمني النفس بأن تساعدنا فرنسا. ولكنها خذلتنا… ان فرنسا لا تفهمنا.

كان ما جرى في دمشق يوم ٣٠ أيار على أيدي الفرنسيين فعلاً غير مبرر أوجب ردة فعل ثأرية. فقد احتل العسكر الفرنسي البرلمان. ونهبوا ما فيه من تموين، كما اجتاحوا البلدية وبنك سوريا، والسراي، ومبنى البريد والبرق، وأمعنوا فيها تخريباً.

ولكن فرحة اللبنانيين بانذار تشرشل قابلها قمع للحريات. ففي التاسع من حزيران يونيو تم تعطيل جريدة البشير كانت باصدار الآباء اليسوعيين وجريدة الديار صاحبها حنا غصن وفي العشرين من حزيران يونيو جرى تعطيل جريدتي الهدف زهير عسيران والشرق خيري الكعكي. وقيل يومئذ ان مقالات انتقادية لسياسة العهد والحكومة حكمت بذلك.

وبانتظار تهدئة الأحداث في دمشق، مكث سعدالله الجابري بضعة أيام في بيروت، ودعاه الشيخ بشارة الخوري الى السراي في ساحة البرج لحضور اجتماع طلبه المستر شون خلف الجنرال سبيرز الوزير المفوض البريطاني، ومعه الجنرال بايجت القائد الأعلى للقوات الانكليزية في الشرق. ناقلين الى رئيس الجمهورية اللبنانية مذكرة من رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل تتعلق بأحداث سوريا.

وحصلت بعد ذلك تطورات، أبرزها طرح موضوع الأمن الغذائي في سلّم الأولويات عند حكومة عبدالحميد كرامي.

ومنعاً للاستغلال الاقتصادي، جرى التوافق مع الجانبين الفرنسي والبريطاني على ان تتولى الحكومة اللبنانية توزيع المواد الغذائية ببطاقات.

الجديد والقديم

بعد غياب رئيس الجمهورية، عن موقعه في القصر الجمهوري، أصبح كل وزير من الوزراء الأربعة والعشرين يحكمون البلاد ويتحكّمون بالعباد. وكل واحد منهم أصبح وزيرا يتمتع بالقوة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية.

وعندما يطرح أي موضوع على مجلس الوزراء، في غياب الاتفاق المسبق عليه، يتم ارجاؤه الى جلسة لاحقة، كموضوع سوكلين الذي يهدّد بجعل لبنان وطن النفايات.

إلاّ أن وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور ربح اللوتو، عندما فجّر فضائح الفساد، وكشف للعالم ان السلطة تتسلّط على الناس، وتبيح المتاجرة بلقمة الناس. والذي أثار فضيحة كبرى، هي زيارته مع وزير الاشغال العامة لعنابر مطار بيروت، وتبيّن لهما، ان اللبنانيين يأكلون أجباناً ولحوماً موضوعة في مخازن تجتاحها الأوساخ والصراصير، وطلب من المدعي العام التمييزي، احالة حماة الفساد ورعاته على القضاء، لأن الاستلشاق سائد في كل مكان، وان المواطن يأكل السمّ والفساد مع لقمة غذائه، ولا أحد في السلطة يجرؤ على الدقّ بأحد.

يقول المفكر السياسي النائب الراحل ادوار حنين، انه كان يستقيل من كل حكومة يُعيّن فيها، بمجرد أن يشعر بوجود مناخ فاسد، يجثم أركانه، وهم أقوياء، فوق رأسه، أو يحاولون منع ارادته الاصلاحية، أن تشق طريقها لضرب مواقع الفساد.

ويشدّد ادوار حنين على انه كان ينتمي الى حزب الكتلة الوطنية، وعندما يتعارض الاثنان، يكون خياره الى جانب الدولة.

ولهذا، كان يستجيب لرؤساء الجمهورية عندما يكلفونه بأي أمر، يشعرون بأنه يستطيع، وهو نائب، ان يقوم بها ويعمل على تحقيقه، ولو لم يكن وزيراً في الحكومة، وهذا ما كان عنوان عمله السياسي، في حقبات عديدة، قبل حقبة السبعينات الفاصلة بين لبنان والحرمان، وبين الدستور اللبناني والخروج على الدستور أحيانآً.

ويروي وزير سابق في حكومة الشباب ان وزير الصحة الدكتور اميل البيطار، قاد معركة الدواء في العام ١٩٧٠، وتقبّل وقبل مرغماً قرار إبعاده عن الحكم، عندما شعر ان السلطة والفساد حليفان لا ينفصلان أحياناً، ضد أي نواة يرمي أصحابها الى الاصلاح العام وتغيير النمط الفاسد في أجهزة الدولة.