في كلّ سنة تمرّ ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يزداد الشوق إليه ونكتشف أكثر لماذا قتلوه. كلّما مرّت سنة على الفاجعة، يتبيّن أكثر أن الجريمة ليست معزولة عن المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة الذي يشمل لبنان، وهو المشروع الذي أخذ بعداً جديداً منذ الغزو الأميركي للعراق وإسقاط النظام القائم.
أسقطت الدبابات الأميركية النظام، بسيئاته الكثيرة، من دون التفكير مسبقاً بمرحلة ما بعد سقوطه. الثابت الوحيد في تلك المرحلة أن إيران كانت الشريك الإقليمي الوحيد والفاعل في عملية الاحتلال الأميركي للعراق في آذار 2003.
مع سقوط العراق، طرأ تطوّر نوعي على طبيعة المشروع التوسّعي الإيراني منذ تسليم إدارة جورج بوش الابن البلد على صحن من فضّة إلى إيران، على الرغم من التحذيرات التي تلقتها الإدارة الأميركية.
على سبيل المثال وليس الحصر، حاول الملك عبدالله الثاني، في آب من العام 2002 حمل بوش الابن على التفكير ملياً في النتائج التي ستترتب على احتلال العراق ولكن من دون نتيجة. وجد نفسه أمام حائط. بعد ذلك، كان العاهل الأردني أوّل الذين تنبّهوا في المنطقة الى خطورة وضع اليد الإيرانية على العراق. تحدّث صراحة عن «الهلال الشيعي«، بمعناه السياسي وليس المذهبي، في حديث صدر في «واشنطن بوست« في تشرين الأوّل 2004، أي بعد سنة ونصف سنة من سقوط النظام العراقي.
ما نشهده اليوم في لبنان يمثل حلقة أخرى من مسلسل بدأت فصوله تتبلور أكثر برفض «حزب الله«، بصفة كونه حزباً لبنانياً، الانخراط في الحياة السياسية في البلد بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، في أيار 2000 تنفيذاً للقرار الرقم 425 الصادر عن مجلس الأمن التابع للامم المتحدة في آذار 1978.
أقرّت الأمم المتحدة في تقرير رسمي بأن إسرائيل نفّذت القرار بحذافيره. لكنّ «حزب الله« تذرّع بمزارع شبعا، كي يرفض التخلي عن سلاحه. تبيّن بكل بساطة في تلك المرحلة خطأ مَن لديه أي وهم، حيال مشروع الحزب وما يمثّله حقيقة وطبيعة تبعيته لإيران من كلّ النواحي.
مَن يعتقد بأن «حزب الله« تخلى عن هدفه الإيراني، لا يريد التعاطي مع الواقع. فمنذ العام 1989 رفض الحزب اتفاق الطائف. أصرّ منذ أصبح لديه نوّاب في المجلس على عدم إعطاء الثقة لأيّ حكومة من حكومات رفيق الحريري. بقي خارج الحكومة، ما دام لبنان تحت الوصاية السورية. لم يدخل الحكومة إلّا بعد التأكد من اغتيال رفيق الحريري. شارك بطريقة غير مباشرة، بعضو محسوب عليه في الحكومة الأولى لنجيب ميقاتي في 2005. كان اسم الوزير طراد حماده. بعد ذلك، صار شريكاً في كلّ الحكومات عبر أعضاء فيه. انتقل الى تكريس الثلث المعطّل في الحكومة وصولاً إلى ما وصلنا اليه اليوم من تعطيل لانتخاب رئيس الجمهورية.
كان التخلص من رفيق الحريري نقطة تحوّل على الصعيدين اللبناني والاقليمي. بدأت تظهر، منذ لحظة الاغتيال، حقيقة المشروع الإيراني الذي يعتبر التدخل العسكري لـ«حزب الله« في سوريا جزءاً لا يتجزّأ منه في المدى الطويل، فيما الجزء الآخر يتعلّق بلبنان تحديداً. هل صدفة هذا الحلف القائم بين الفريقين الانقلابيين اللذين رفضا أصلاً اتفاق الطائف وهما «حزب الله« والنائب المسيحي ميشال عون الذي أصرّ على البقاء في قصر بعبدا، كرئيس لحكومة موقتة ذات مهمّة محدّدة جداً، بعد توقيع وثيقة الوفاق الوطني وإقرار الدستور الجديد الذي انتخب بموجبه رينيه معوّض رئيساً.
كلّ ما يفعله «حزب الله« منذ اغتيال رفيق الحريري يصبّ في التخلّص من اتفاق الطائف. كلّ الكلام الصادر عن الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله للاستهلاك المحلي ويعكس رغبة في استمرار الفراغ في رئاسة الجمهورية.
هناك اعتقاد لدى «حزب الله« بأن موازين القوى التي أدّت الى ولادة اتفاق الطائف لم تعد قائمة.
على دم رفيق الحريري، خرج النظام السوري من لبنان عسكرياً وأمنياً. يكمن الفارق بين إيران والنظام السوري في أنّ إيران لا يمكن أن تكتفي بتنفيذ الطائف على طريقتها واستخدامه بما يخدم مصالحها. تريد الذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير، أي إلى إدارة اللعبة السياسية في البلد والتحكّم بها عبر المؤسسات الشرعية وإيجاد موطئ قدم ثابت لها في هذه المؤسسات، بما في ذلك النظام المصرفي اللبناني.
تريد إيران خطف لبنان، تماماً كما خطفت الطائفة الشيعية الكريمة وحوّلتها إلى رهينة لديها. تريد بديلاً من اتفاق الطائف يجعل المثالثة بديلاً من المناصفة. وتريد قانوناً جديداً للانتخابات يعتمد النسبية بهدف إضعاف السنّة والمسيحيين.
صحيح أنّ رفيق الحريري غائب. صحيح أنّ لا شيء يعمل في لبنان منذ رحيله. صحيح أنّ المؤسسات كلّها، أو ما بقي منها، مهدّدة. كلّ هذا صحيح، بما في ذلك أن «حزب الله« يتحكّم بالسلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية وأن وزير الخارجية اللبناني صار يلعب دور وزير الخارجية الإيراني في الاجتماعات العربية والإسلامية، وكلّما دعت الحاجة إلى ذلك.
لكنّ الصحيح أيضاً وجود تساؤلات كثيرة مشروعة في شأن ما إذا كانت إيران ستكون قادرة على متابعة مشروعها، على الصعيد الداخلي اللبناني، وتغيير ميزان القوى في المنطقة لمصلحتها نهائياً. هل تستطيع ذلك، حتّى لو كانت في حلف مستتر مع اسرائيل يعتبر الوضع السائد في سوريا إفضل تعبير عنه؟