IMLebanon

الجميع يذهب للآخِر

 

توماس فريدمان نيويورك تايمز

 

من الصعب أن نقضي أسبوعاً في إسرائيل من دون أن نشعر بأنّ الأمور تسير في مصلحة الإسرائيليين.

أنشأ الإسرائيليون قطاعاً رهيباً لصناعة التكنولوجيا الفائقة، ويبدو أنّ الشباب والشابّات يعملون لدى شركات رياديّة ناشئة. والعدوى انتقلت حتى إلى العرب الإسرائيليين، إذ ارتفع عدد الذين يدرسون للحصول على شهادة إدارة الأعمال في الجامعات الإسرائيلية بنسبة 60 في المئة في السنوات السبع الماضية، ووصَل عددهم إلى 000 ,47 طالب.

وعلى الصعيد الإقليمي، يعيش العرب والفلسطينيون أضعفَ مرحلة، وتحت قيادة الرئيس دونالد ترامب، تتّسم علاقات إسرائيل بالولايات المتحدة، وبدون شكّ، بالودّية. واعترَف ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ولم يطلب من إسرائيل أيَّ شيء في المقابل. وبالكاد عبّرَت الدولُ العربية عن أيّ اعتراض.

للأسف، وعلى رغم أنّ هذه الظروف الملائمة قد زادت شهية المستوطنين الإسرائيليين وحزبِ الليكود الحاكم للذهاب حتى النهاية، ففي 31 كانون الأوّل، أفادت وكالة «رويترز» أنّ «حزب الليكود حثَّ بالإجماع المشرّعين في قرار غير ملزِم … على ضمِّ المستوطناتِ الإسرائيلية في الضفّة الغربية المحتلّة، وهي أرض يريدها الفلسطينيون لإقامة دولة مستقبلية».

سيَصرخ العالم بالتأكيد «تفرقة عنصرية»، ولكنّ اليمينيين الإسرائيليين تجاهلوا تلك الادّعائات قائلين إنّ العالم سيعتاد على ذلك.

ثمّ خطرَ ببالي أنّني «قد رأيت هذه المسرحية من قبل، في 17 أيار 1983، اليومِ الذي وقّعت فيه إسرائيل اتّفاقَ سلام مع بيروت، بعد غزوِها لبنان. ولكن استخدام كلمة «وقّعت» ليس صحيحاً تماماً. فرَضت إسرائيل (بدعم من الولايات المتحدة) كلَّ مطالبها الأمنية تقريباً على حكومة لبنانية ضعيفة، بما في ذلك إطارٌ لتطبيع التجارة والدبلوماسية.

في ذلك الوقت، كان لإسرائيل أيضاً زعيمٌ يميني، وهو مناحيم بيغن، الذي احتضَنه الرئيس الودّي للغاية رونالد ريغان. وكانت مِصر قد وقَّعت لتوِّها معاهدةَ سلام وانسحبَت من الصراع، بينما بعثَ زعيمٌ عربيّ شابّ آخَر، أمير الحرب المسيحي اللبناني بشير الجميّل، إشارةً لإسرائيل للانضمام إليه في سحقِ الفلسطينيين وإعادةِ صياغة الشرق الأوسط معاً.

وكتبَ زميلي جوناثان راندال، من صحيفة «واشنطن بوست» في بيروت، كتاباً عن تلك اللحظة عنوانُه: «الذهاب للآخِر: أمراء الحرب المسيحيون، المغامرون الإسرائيليون والحرب في لبنان».

ولطالما أحببتُ عبارةَ «الذهاب للآخِر»، إنّها موضوع متكرّر هنا في هذه المنطقة، ودائماً ما تنتهي بمشهدٍ مِن فيلم «ثيلما ولويز»، حيث يقود الشركاء السيارة إلى الهاوية، مِثلما حصَل مع إسرائيل عام 1983.

وسرعان ما بَرزت الميليشيات اللبنانية، وعلى رأسِها «حزب الله»، لمقاومة معاهدة 17 أيار. وفي 5 آذار 1984، بعد 10 أشهر فقط من توقيعِها، كتبتُ في صحيفة «نيويرك تاميز» من بيروت: «ألغى لبنان اليوم رسمياً اتفاقية انسحابِ العسكر مع إسرائيل»، ووضَع نهاية «لِما يسمّى الحقبة الإسرائيلية في السياسة اللبنانية، فعاد لبنان بقوّة إلى المعسكر السوري – العربي».

ولماذا أروي هذه القصّة الآن؟ لأنّني أينما أنظر اليوم، أرى أشخاصاً يذهبون للآخِر.

أرى الجمهوريين يُحطّمون اثنتين من أقدسِ المؤسّسات الأميركية؛ مكتب التحقيقات الفدرالي ووزارة العدل، لأنّ هذه المؤسسات ترفض الانحناءَ لإرادة ترامب. أرى إيران تسيطر على 4 عواصم عربية: دمشق، صنعاء، بغداد وبيروت. أرى أنّ حماس لا تزال مهتمّةً ببناء الأنفاق في غزّة لقتلِ الإسرائيليين أكثر مِن بنائها المدارسَ لتقويةِ المجتمع الفلسطيني.

أرى الرئيسَ التركي يكمُّ فمَ كلِّ صحافيّ مهم في بلاده. أرى أنّ الرئيسين المصري والروسي يزيلان كلَّ منافسيهما الجادّين في انتخاباتهما المقبلة. أرى أنّ بنيامين نتنياهو يحاول عرقلة تحقيقٍ في الفساد من خلال إضعاف نظامِ العدالة الإسرائيلي، والإعلامِ الحرّ والمجتمع المدني، تماماً مِثل ترامب ولأغراضٍ مماثلة: لإضعاف القيود المفروضة على استخدامه التعسّفي للسلطة السياسية.

وأسوأ من ذلك كلّه، أرى الولايات المتحدة الأميركية، أقوى حارسٍ في العالم للحقيقة والعلوم والمعايير الديمقراطية، يقودها الآن رَجلٌ كذّاب ومدمّر للأعراف، يعطي الترخيصَ لكلّ شخصٍ آخر بأن يسأل؛ لماذا لا يمكنني أنا أيضاً؟

هل يمكن لأي شيء أن يوقفَ هذا الوباء من الذهاب للآخِر؟ نعم: الطبيعة الأم، الطبيعة البشرية والأسواق، ستدفع الأمور إلى الخلفِ وتعيدها إلى نصابها، عندها لن يُقدم أحد على ذلك.

كيف ذلك؟ حسَناً، انظروا إلى قطاع غزّة. هناك، وبسبب ضغينةِ حركة حماس وعدمِ كفاءتها، وبسبب بعضِ القيود الإسرائيلية، لا تحصل غزّة سوى على ساعات قليلة من التغذية بالقطاع الكهربائي كلّ يوم. والنتيجة: محطّات الصرف الصحّي غير الكافية أصلاً معطّلة معظمَ الوقت، فتذهب النفايات والمياه الآسنة مباشرةً إلى البحر الأبيض المتوسط.

وبعد ذلك، يَجرف التيار مخلّفاتِ مجارير غزّة شمالاً، حيث تسدّ محطة تحليةِ المياه الإسرائيلية الكبيرة في عسقلان، والتي توفّر 15 في المئة من مياه الشرب الإسرائيلية، وفقاً للمنظمة البيئية غير الحكومية «EcoPeace» في الشرق الأوسط. وفي عامي 2016 و2017، اضطرّت محطّة عسقلان لإقفال مصافيها لتنظيف النفايات من فلاترها. وهذه طريقةُ أمِّنا الطبيعة لتذكيرنا بأنّهم إذا أرادوا أن يذهبوا للآخِر، وإذا رَفضوا الترابط الصحّي، فإنّها سوف تُسمّم الطرفين.

ويعتقد القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني أنّه رَجلٌ مهمّ للغاية في اللعبة الإقليمية. يتحكّم وكلاؤه بأربع عواصم عربية، وكلّها تنحني له. ولكن بعد ذلك، ومِن العدم، يبدأ الإيرانيون الاحتجاجَ ضدّ تجاوزاتِ سليماني، وباتوا يتعبون من رؤية أموالِهم تذهب إلى غزّة وسوريا وليس إلى يدِ الإيرانيين. وفجأةً، تصبح أهمّ مقاطع الفيديو على الإنترنت في إيران تلك التي تُجسّد امرأةً تُمزّق حجابَها وتحمله على طرفِ عصا.

لذلك، أقول لجميع الذين يذهبون للآخِر: احترِسوا من الأسواق ومن الطبيعةِ الأمّ والطبيعة البشرية. لأنّ أوّلَ اثنين «لا يمكن السيطرة عليهما، والثالثة لا يمكن كبحُها».