Site icon IMLebanon

إحياء المجلس الاقتصادي الاجتماعي بعد 15 سنة من التعطيل

بعد تعطيل دام 15 عاماً، تجرى حالياً محاولة لإعادة تفعيل المجلس الاقتصادي الاجتماعي، الذي تأسّس في عام 2000، وعمل لمدّة سنتين من دون تمكينه من أي إنجازات تذكر. نيّة التفعيل المُستجدة لا تبشّر بما قد يؤدي إلى أداء المجلس لدوره، فهي وإن أتت تحت ذريعة الورشة الاقتصاديّة التي أعلن عنها في لقاء بعبدا، الذي دعا إليه رئيس الجمهوريّة في حزيران الماضي، إلّا أن المحاصصة السياسيّة والطائفيّة والمصالح القطاعيّة التي تتحكّم بتشكيل هيئته العامّة، تهدّد بإفقاده دوره تجاه القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وتفريغه من الخبرات والكفاءات، وتشويه وظيفته ليصبح أكثر ميلاً لخدمة مصالح الفئات المسيطرة

بادر رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، منذ ستة أشهر، إلى طرح فكرة إحياء المجلس الاقتصادي الاجتماعي، المعطّل منذ عام 2002 مع انتهاء ولاية أعضائه، وقد تمّ الاتفاق مع رئيس الحكومة سعد الحريري على إطلاق آلية تشكيل هيئة المجلس العامّة، والتي تقضي بمراسلة الهيئات المُمثلة فيه لتقدّم لائحة بأسماء مرشحيها تضمّ 3 أضعاف عدد المراكز المخصّصة لها، ليختار مجلس الوزراء اسماً واحداً عن كلّ مركز لعضوية الهيئة العامّة المؤلفة من 71 عضواً.

تشير مصادر متابعة للملف إلى أن «أغلب الهيئات سمّت أعضاءها منذ ما يقارب الثلاثة أشهر، إلّا أن حجّة التوازن السياسي والطائفي والمناطقي حالت حتى اليوم دون إدراج بند تعيين أعضاء الهيئة العامّة (61 عضواً عن الهيئات الأكثر تمثيلاً المُشكّلة للمجلس، و10 أعضاء مستقلين من أصحاب الكفاءة)، على جدول أعمال مجلس الوزراء». ما تمّ التوصّل إليه حتى اليوم، بحسب مصادر مختلفة «أن تكون نسب التمثيل المذهبي في المجلس مماثلة لما هي عليه في البرلمان، أن يتمّ اختيار رئيس كل هيئة من الهيئات المصنفة أكثر تمثيلا في حال كان مرشحاً من بين الأسماء الثلاثة المُسماة من هيئته، تكريس رئاسة المجلس للكاثوليك ومن حصة أصحاب العمل، فيما تخصص نيابة الرئيس للسنّة ومن حصة العمّال”. هذه “التوافقات” لا تبشر بحسن اختيار أعضاء المجلس وتنطوي على المزيد من التشويه لوظيفته، وتكرسه في خدمة السياسة والطائفة وأصحاب المصالح المتصارعة.

أمّا لناحية الأسماء الأكثر تداولاً لرئاسة المجلس، فيبرز روجيه نسناس رئيس المجلس السابق، وشارل عربيد رئيس جمعية تراخيص الامتياز في لبنان وعضو الهيئات الاقتصاديّة، وهو كان محسوباً على فريق 14 آذار وأصبح مقرّباً من العهد. يرى نسناس نفسه مرشّحاً طبيعياً لرئاسة المجلس، في حال تعيينه عضواً في الهيئة العامّة، ويعتبر ذلك بمثابة عرفان جميل «بعد 17 عاماً من العمل والسعي لتحصين المجلس، والإبقاء على فكرته، ووضع أنظمته وهيكليّته الإداريّة، ومساهمته في تعزيز فلسفة الحوار بين شرائح المجتمع، وترسيخ العلاقات مع المجالس الأجنبية، وكلّه من جيوبنا الخاصّة». فيما يرفض عربيد تصنيف نفسه مرشّحاً رغم «وجود رغبة في ذلك». ويقول «لا يمكنني عرض نفسي مرشّحاً لرئاسة المجلس، قبل تعييني ضمن أعضاء الهيئة العامّة، وقبل انتخابي ضمن هيئة المكتب، لأتمكّن من الترشح إلى رئاسة المجلس».

تاريخيّة المجلس وقانونه

أنشئ المجلس الاقتصادي الاجتماعي في لبنان في عام 1995 بموجب القانون الرقم 389، تنفيذاً للإصلاحات التي نصّ عليها اتفاق الطائف، وبالتزامن مع تطوّرات اقتصاديّة واجتماعيّة، بحسب ما يشير الدكتور كمال حمدان في دراسة أعدّتها «مؤسّسة البحوث والاستشارات»، أهمّها: التراجع الحادّ في معدّلات النمو الاقتصادي، بدء ظهور مشكلة العجز في الموازنات السنويّة وتفاقمها، غياب الرؤى الاقتصاديّة والاجتماعيّة للحكومات بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة وتراجع الآمال في إحداث نقلة نوعيّة في السياسات الاجتماعيّة السائدة في البلاد. وقد عُيّنت الهيئة العامّة الأولى له في 30/12/1999، وبوشر العمل فيه بغياب مقرّ له في عام 2000، قبل أن يتوقف عمله مع نهاية ولاية الهيئة في عام 2002، وانحصر نشاطه بتصريف الأعمال، علماً بأن فكرة إنشائه تعود إلى عهد الرئيس فؤاد شهاب نتيجة مطالبات الأحزاب اليساريّة والنقابات المهنيّة والاتحادات العماليّة وشخصيات سياسيّة مثل ريمون إده وكمال جنبلاط وصائب سلام، ليكون مساحة للحوار والتلاقي بين القطاعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمهنيّة، ومدخلاً لإصلاح النظام اللبناني، وذلك بالتوزاي مع انتشار الأفكار اليساريّة حول العدالة الاجتماعيّة، وتطوير مفهوم دولة الرعاية، إبّان تلك الفترة.

إلّا أن معوّقات عدة أدّت إلى تأخير إنشائه، أهمّها سياسيّة، تعبّر عن مخاوف من أن ينعكس إنشاء المجلس على واقع توزّع مواقع القرار داخل السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة، مع ما تعكسه هاتان السلطتان من توازنات هشّة وحسابات طائفيّة.

ينصّ قانون إنشائه على كونه مجلساً يعمل على تأمين مشاركة القطاعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمهنيّة بالرأي والمشورة وفي صياغة السياسة الاقتصاديّة والاجتماعيّة للدولة التي تطلبها منه الحكومة، وتنمية الحوار والتعاون والتنسيق بين مختلف القطاعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمهنيّة، وأن يكون له حقّ المبادرة في أي قضايا أخرى، لكن بموافقة ثلثي مجموع أعضائه باستثناء مشاريع القوانين الماليّة والنقديّة بما فيها مشاريع الموازنات العامّة وملحقاتها، على أن يكون رأيه استشارياً (غير ملزم) وينشر في الجريدة الرسميّة.

وبحسب القانون، يُفترض أن يضمّ المجلس 71 عضواً، “يمثلون أصحاب الفكر والكفاءة والاختصاص، وأصحاب العمل، والقطاعات الاقتصاديّة، والمهن الحرّة، والعمّال، والأساتذة وروابط المعلّمين، والحرفيين، ومالكي الأبنية والمستأجرين، والجمعيات التعاونية، والمؤسسات الاجتماعيّة، والاتحادات النسائيّة، والمغتربين”، ولا يوجد في هذا القانون أي نص يرمي إلى التوزيع الطائفي أو المذهبي، كما لا يتضمن تطويب رئاسته لممثلي أصحاب الرساميل والهيئات الاقتصادية.

صعوبات وانتقادات

بسبب الهواجس والحسابات المتصلة بالنظام الطائفي وسيطرة الرأسمال المالي والتجاري، جرى تفريغ القانون من أي دور جديّ للمجلس، ويتبيّن ذلك من خلال استثناء كلّ مشاريع القوانين الماليّة والنقديّة، بما فيها مشاريع الموازنات وملحقاتها، من ضمن مهماته وهامش المبادرة المتاح له، إضافة إلى شرط موافقة ثلثي أعضائه لقيامه بأي مبادرة استشاريّة حول أي قضية لا تحيلها الحكومة إليه. يقول رئيس المجلس روجيه نسناس «إن قانون المجلس يشلّ المجلس، نظراً إلى صعوبة تأمين ثلثي الأعضاء للمبادرة إلى تقديم أي رأي، وخصوصاً أنه يضمّ عدداً من المغتربين هم خارج البلاد، فضلاً عن بروز معوّقات كثيرة تتمثّل بضعف التمويل، ما اضطرّنا بداية إلى العمل من دون مقرّ، ومن ثمّ تأمين مكاتب خاصّة وموظفين لتسيير عمل المجلس، إضافة إلى بقاء ملاكه شاغراً، وغير ذلك من معوقات». ويضيف نسناس أن هذه العوائق «هي موضوع مشاريع قوانين أعدّت لتعديل القانون 389 بحيث تصبح موافقة الأكثرية من الأعضاء شرطاً للمبادرة وإبداء الرأي بدلاً من الثلثين، واستمرار المجلس بمهماته حتى صدور مرسوم تعيين أعضاء جدد لتفادي الشغور الحاصل منذ عام 2002».

مواقف الهيئات

الخلل الأساسي يكمن في أن الحكومة هي التي تحدد، بمرسوم، الهيئات الأكثر تمثيلاً، وهذا يجعل من تركيبة المجلس غير تمثيلية بالمعنى الحقيقي… إلا أن الهيئات التي تسميها الحكومة بوصفها الأكثر تمثيلاً ترى أهمّية المجلس كامنة في صيغته الحواريّة بمعزل عن تركيبته ومدى تمثيلها للفئات الاجتماعية، علماً بأن الآمال المعلّقة على قدرته في إحداث خرق ما في المنظومة الاقتصاديّة والاجتماعيّة القائمة تتفاوت بين هيئة وأخرى، نظراً إلى السيطرة المُسبقة التي تفرضها السلطة عليه، سواء عند تعيين أعضائه أو تحديد القضايا التي يشارك في إبداء الرأي فيها.

يقول عدنان برجي (رابطة أساتذة التعليم الرسمي وهيئة التنسيق النقابية) إن «نظام الهيئات الأكثر تمثيلاً في المجلس لم يكن يلحظ دوراً للأساتذة عند تشكيله في عام 1999، واستمرّ تغييب الأساتذة حتى اليوم نظراً إلى انتهاء ولاية المجلس الحالي واستمراره في تصريف الأعمال، على الرغم من التعديلات التي طرأت على نظام الهيئات الأكثر تمثيلاً والتي أعطت روابط الأساتذة مقعدين فيه»، ويتابع برجاوي «هناك رؤية عامّة يجب أن تحكم عمل المجلس تبدأ من جعل آرائه مُلزمة، أقله للحكومة، كي لا يصبح مساحة مشتركة للحوار من أجل الحوار، بغية تطوير مفهوم دولة الرعاية الاجتماعيّة. إضافة إلى إيجاد آلية تعيين تعير أهمّية للكفاءات، لا أن تكون مرهونة للاعتبارات السياسيّة كما هو الواقع اليوم، وأن يكون موقعاً للإنتاجيّة الفعليّة لا للبرستيج الاجتماعي».

من جهته، يرى رئيس جمعيّة تجّار بيروت نقولا الشماس أن «هناك أهمّية لإعادة تفعيل الحوار الاقتصادي والاجتماعي المعطّل منذ زمن، باعتبار أن هناك الكثير من المشكلات التي يمكن للمجلس أن يكون مطبخاً لها لتقريب وجهات النظر والإعداد الأولي لها». ويضيف شمّاس «على المجلس أن يساهم في تعزيز الاقتصاد، وإعادة هيكلته وهندسته، والأهم تحديد الرؤية الاقتصاديّة المستقبليّة في إطار ما توجّه به رئيس الجمهوريّة أخيراً عن سعيه إلى الارتكاز على الإنتاج أكثر من الريع، وهو ما يجعلنا كتجّار أمام هاجس للاتفاق على قاموس واحد ورؤية واحدة كوننا نرى قطاعنا من القطاعات الأكثر أهمّية».

أمّا رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر فيطرح أن «تكون قرارات المجلس ملزمة لا استشاريّة، باعتبار أن المجلس هو المكان الأوّل والأخير للحوار»، مشيراً إلى أن الاتحاد «سمّى ممثليه ورفع أسماءهم إلى الأمانة العامّة لمجلس الوزراء، علماً بأن التسمية تخضغ للعوامل السياسيّة والتوافقيّة التي جعلت رئيسه من أصحاب العمل ونائبه من العمل، ما قد يؤدي إلى تعطيل دور المجلس في حال حصول محاولات لفرض خيارات وطروحات أو مصالح معيّنة»، ويتابع الأسمر «هناك مجموعة من المشاريع التي نعمل عليها وسنطرحها للحوار داخل المجلس، أهمها تعديل قانون العمل وخصوصاً المادة 50 منه حول الصرف التعسفي والاقتصادي، والإيجار التملكي، وقوانين التعاقد والحماية الاجتماعيّة ونهاية الخدمة.

تطوير المجلس

خلال ورشة عمل عُقدت في عام 2014، من تنظيم «مبادرة المساحة المشتركة»، حول إعادة تفعيل المجلس الاقتصادي الاجتماعي في لبنان، رُفعت مجموعة من التوصيات تهدف إلى «تمكين المجلس من القيام بدوره ووظيفته، وتتمحور حول آليات عمله، ومبادئ وأسس تتيح له رفد منظومة الحوكمة بقيمة مضافة»، وتتمثّل بـ«تشكيل المجلس على أساس الانتماءات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، واعتماد مبدأ الحوار الموضوعي والعلمي في مداولاته بما يتجاوز منطق المحاصصة والتفاوض والاحتكام إلى توازنات القوة السائدة في مؤسسات السلطة، وأن يستمد قيمته من تمثيله الواسع للمجتمع المدني ومن قدرته على التوصل إلى جوامع مشتركة واقتراحات مفيدة، فضلاً عن إدخال تعديلات على قانونه بما يسمح باستمرار عمل المجلس حتى بعد انتهاء ولايته وإلى حين صدور مرسوم تعيين أعضاء جدد، تخفيف القيود في تحديد حجم الأكثرية المطلوبة ونوعها في التصويت على ما يصدر عن المجلس، وضع معايير أكثر دقّة وصرامة بالنسبة إلى تعيين الخبراء العشرة في المجلس، والعمل على تحسين عمليّة تمثيل جمعيّات المجتمع المدني والنساء والشباب في عضوية المجلس، وأن يكون عمله مشمولاً بالقضايا الملحّة كما القضايا الاجتماعيّة الكبرى.

ليس الجميع مدعوّين

كان لافتاً إعلان نقيب المهندسين في بيروت، جاد تابت، أن النقابة لم تتلقّ دعوة من الحكومة لتسمية مرشحيها لملء المقعدين المخصصين للمهندسين في بيروت وطرابلس. وقال لـ»الأخبار» إن «أحداً لم يطلب منّا تسمية مرشحينا، على الرغم من استعدادنا لذلك، وخصوصاً أن من أهدافنا تفعيل دور المجلس الميّت».

منطق المحاصصة والنموذج الغنائمي

يعدّد الباحث الاجتماعي والمنسق العام لمبادرة المساحة المشتركة، أديب نعمة، مجموعة من المشكلات التي حالت دون تطوير المجلس الاقتصادي الاجتماعي، وقيامه بدوره ووظيفته، تتمثّل بالآتي:

1- إخضاع اختيار رئيسه (ولا يزال) للتوازنات الطائفيّة، فدخل ضمن التركيبة السياسيّة، وبات منصباً لطائفة، وبالتالي موقعاً من مواقع السلطة، بما يناقض أهمّيته النابعة من قدرته على خلق حوار.

2- وجود خلل في تركيبته المُعيّنة من السلطة السياسيّة التي تحدّد بدورها الهيئات الأكثر تمثيلاً فيه، بما يسهّل عمليّة الإمساك به.

3- تعيين رئيس يمثّل إحدى المصالح المتناقضة داخل المجلس بدل أن يكون خبيراً محايداً يحافظ على دور المجلس الحواري.

4- تقييد عمله لناحية صلاحيّته الاستشاريّة الرخوة التي تسخّف دوره وتقوّضه.

5- اعتبار الممثلين فيه مناصبهم بمثابة مواقع تشريفيّة.

ويرى نعمة أن إعادة تشكيل المجلس اليوم «تتمّ وفق منطق المحاصصة والنموذج الغنائمي الذي يحكم التعيينات، والتي تقيّد دوره، وتجرّده من أهمّيته ووظيفته، وتغيّب المستقلين القادرين على خلق مساحة للنقاش وتقديم أفكار إضافيّة للحكومة والأحزاب، فيما المطلوب أن لا يكون خاضعاً للكوتا الطائفيّة، ولا جزءاً من مواقع السلطة أو منصباً تشريفياً، وأن يكون رئيسه شخصاً محايداً، وهو ما يمهّد للقضاء على المجلس ومفهومه».