IMLebanon

استحضار كربلاء لن يجدي

تصرّ إيران على العيش في الماضي على رغم نشاطها النووي الدؤوب. والماضي هنا سياسي وديني، يعتاش عليه نظامها ويحاول جاهداً تعميمه على الجوار العربي خصوصاً، فيتعمد الدفع في اتجاه تجييش طائفي يفيده في تبرير استمراره، بعدما أخفق بفداحة في الاقتصاد، وأخلّ بوعوده في جعل الإيرانيين يعيشون حياة أفضل، وأوقعهم في عزلة شبه تامة، على رغم مرور 36 عاماً على استيلاء آيات الله على الحكم.

وتصرّ طهران المتمسكة بانقسامات الماضي على الانتقام من التاريخ والجغرافيا، فالعالم العربي بالنسبة اليها، على تفككه، يشكل خطراً وجودياً، ولا بد من تقسيمه أكثر بين سنّة وشيعة، وبين تابعين وأعداء. لا تزال «القادسية» ماثلة في ذهن قادتها ولا تزال «كربلاء» حاضرة في خطابهم. ترفض ان ترى الى المستقبل وتسعى الى اجهاض الحاضر وإعادته الى الوراء عبر تكبيله بقيود لا تتّسق مع مسارات التقدم.

يقول سياسيوها إنها عادت «إمبراطورية» عاصمتها بغداد، وتطلق الميليشيات العراقية التي يقودها جنرالاتها تسمية «لبيك يا حسين» على حملة مشبوهة لـ «تحرير» الأنبار، ويدعو صنيعتها «حزب الله» كوادره الى «الصمود في صفّين» وإلى تعبئة عامة للدفاع عن «الوجود الشيعي»، في استعادة خبيثة لكل ما يحرّض ويؤلّب، ولكل ما يقسّم ويفرّق.

يقول الإيرانيون وأتباعهم إنهم يحاربون «التطرف السنّي»، لأنهم لا يرون في «داعش» سوى تنظيم «سنّي»، علماً ان غالبية ضحاياه من السنّة، وإن المناطق الخاضعة لجوره وارتكاباته سنّية في معظمها، سواء في العراق او سورية، وعلماً ان الدول التي يصنفونها «سنّية» هي التي تحارب متشدديه، وهي المتضررة من ارهابه وتقاتله في اكثر من ساحة.

تلجأ إيران وأحزابها في المنطقة العربية الى اخراج الرواية التاريخية من سياق صراع عادي ومتكرّر على السلطة، وتملأها بالدم والنحيب لتحريض أتباعها على الوقوف ضد الوحدة الوطنية في أوطانهم. وتستغل ابتلاء السوريين والعراقيين واليمنيين واللبنانيين بأنظمتهم لتدّعي ان العرب لا يستطيعون العيش في دول موحدة، وإن الحل يكمن في دويلات طائفية على غرار دويلة نصرالله في لبنان، ودويلة العلويين المزمعة في سورية، ودويلة الميليشيات «الكربلائية» في بغداد.

وتقول إنها تشارك في قتال «داعش»، لكنها تستغل ذلك لإعلان أن جيشها توغل 40 كيلومتراً داخل الأراضي العراقية. ويترك الجيش العراقي المؤتمِر بأوامر ممثليها في بغداد دباباته وآلياته ومدافعه وأطناناً من ذخائره ليتسلمها مقاتلو «الدولة الإسلامية» في الرمادي، ثم ينتفض سياسيوها وعسكريوها وجنرالات «الحرس الثوري» رفضاً لاتهامات الأميركيين لهم بأنهم فرّطوا بالأرض لغرض سياسي وليس لسبب عسكري، وأنهم كانوا يتفوقون عدداً وعدة على المهاجمين.

وتترك قواتُ حليفها الآخر، حاكم دمشق، مواقعها وآلياتها وذخائرها في تدمر، وتنسحب من أمام المتشددين إياهم بعد «معركة» لم يؤكدها سوى الإعلام السوري الرسمي. وفي الحالتين يصدر القرار من طهران لإخافة العالم والتلويح له بفزاعة التطرف لإجباره على الاختيار بين سيء وأسوأ.

تريد إيران إعادة المنطقة إلى القرن السابع وإبقاءها هناك، لأن ذلك يوفر لها فرص التدخل في سيادة الدول العربية وقرارها، ويمنح توغلاتها «شرعية» تفتقر إليها. وتركّز جهودها على محاولة عكس مسار التاريخ، ومنع العرب من دفن الماضي والتخلص من انقساماته، فترفع شعار «كل أرضٍ كربلاء»، وتتستّر بعداء لفظي لإسرائيل، وتستغل «سذاجة» الأميركيين الذين صدّقوا كذبة اخترعوها عن «توازن» بينها وبين العالم العربي، فيما هم يحلمون بعقود النفط والتصدير. لكن الوقوف على الأطلال لن يفيد و»كربلاء» اندثرت ولن يجدي استحضارها.