بدون شكّ ابتهاج اللبنانيّين بنهاية ولاية الرئيس السابق العماد ميشال عون غير مسبوقة وإن اكتفى هو ببضعة آلاف من تياره يرفعون معنويّاته ومعنويّات الصهر المدلّل الذي انتهت أيضاً ولايته كظلّ رئاسي حاكمٍ بالفعل حتى اللحظة الأخيرة ولكن انتهت كلّ اللحظات ولم يملك قوّة غيرة، طبيعة الحياة والنّاس التخلّي عمّن فقد السّلطة واللحاق بمن ستقع في يده، من اليوم سيتراجع رنين هاتف الصهر المدلّل بسرعة تزداد وتيرتها يوميّاً إلى أن يكتشف أنّ الباقين حوله يعدّون على الأصابع وأنّه سائر في اتّجاه خسارة موقعه كرئيس للتيّار الوطني الحرّ وأنّهم كلّما علا سقف شحنه وتهوّر رهانه في أخذ البلاد إلى المجهول سينفض الجميع عن أيديهم غبار مواقفه التي ستودي بالبلاد إلى الفوضى واضطراب الأمن والاستقرار الهشّ إلى أقصى الحدود!
ذهب عون وتجربته ووحده التّاريخ سيحاكمه ويعيد كتابة أفعاله بعيداً عن وهج السُّلطة في الوقت المتبقّي له، قد نكون نجونا بالفعل منه ومن رغباته الجامحة في القبض على السّلطة، ولكن المؤكّد أنّنا كلبنان الكيان والشّعب والدّولة والنّظام لم ولن ننجو من هذا الواقع السياسي المفزع والذي يفوق عمره الثلاثة قرون وليس فقط مئة عام من عمر “اختراع” دولة لبنان الكبير، ونظرة على تاريخنا منذ العام 1832 واحتلال إبراهيم باشا المصري واحتلاله للبنان وبلاد الشّام وخروجه منه عام 1840 والقلق والفوضى والتسيّب والتّشرذم بين الطوائف ذاته والتدخّل الدّائم للدّول الأوروبيّة وقناصلها بطلب ملحّ من اللبنانيّين أنفسهم، المشهد اليوم هو ذاتها تكرّر عشرات المرّات في تاريخنا، منذ العام 1840 ونحن ندّعي الوحدة ونقسم “الأيمانات المغلّظة” سواء على مذبح مار الياس ـ انطلياس أو في ساحة الشّهداء ثم ننفضّ منقلبين على اليمين الذي حلفناه ويعود كلّ فريق إلى راعيه الدّولي، ونتناكف ويحارب بعضنا بعضنا وتتردّد أصداء المجازر والاضطرابات الأمنيّة الدّمويّة وبعد كلّ حرب يضعون لنا نظام حكم وتفشل هذه الأنظمة الواحد تلو الأخر وفي بضع سنوات!!
لم ننجُ، والابتهاج بنهاية ولاية الرئيس السابق العماد ميشال عون “كمن يسكر من زبيبة”، نظرة على التّاريخ نحن من مجزرة إلى أخرى، منذ اصطدم الدّروز المدعومون بالسّلاح من بريطانيا والموارنة المدعومون بالسّلاح من فرنسا والاضطرابات والمجازر الّدمويّة في سنة 1841 بسبب ما قيل أنّه خلاف تافه على أحقيّة عبور ماروني وصيده حجلاً في أرض يملكها شخص درزي، بعد هذه الحروب المتنقّلة وضع المحتلّ السّلطاني للبنان نظام القائممقاميّتيْن وحتّى التّقسيم لم ينفع، فاستمرّت الاضطرابات والقلاقل وبعد تسعة عشر عاماً اللبنانيّون إلى الحرب فكانت مذابح العام 1860 ومن جديد تدخّلت الدّول الأوروبيّة ووضع للبنان بروتوكول 1861 وقامت متصرفيّة جبل لبنان وللمفارقة أنّهم هذه المرّة ضيّقوا مساحة لبنان إلى أقصى الحدود وحكم الموارنة مدنهم حتى العام 1918 حتى نهاية الحرب العالميّة الأولى ثمّ وضع لنا نظام جديد عام 1920 فكان قيام لبنان الكبير، ثمّ وضعت فرنسا المحتلة صيغة العام 1943 وعادت الاضطرابات عام 1958 حرباً صغيرة ورمى بنا العرب عام 1970 في محرقة اتّفاق القاهرة بيدنا وقبولنا وعجزنا عن رفض أن نكون جبهة مفتوحة في وجه إسرائيل حتى تكون الجبهات العربيّة باردة وشعوبها آمنة وما لبث كمال جنبلاط أن استعان بسلاح “أبو عمّار” رافعاً شعار علمنة الدّولة من أجل أن يمكّنه ذلك من أن يصبح رئيس وزراء فاحترق لبنان ثم احترق الجبل وأعادت مجازر العام 1860 همجيّتها عام 1983 إلى أن وضعت الدّول العربيّة والأوروبيّة ومعهم أميركا نظام الطّائف ومنع المحتلّ السّوري الذي مشى معه ثلاثة أرباع الشّعب اللبناني واستفاد من وجوده وجمع ثروات طائلة وهائلة بالتّكافل والتّضامن مع المحتل،وها نحن مجدداً بعد سبعة عشر عاماً في عين عاصفة الحاجة إلى نظام جديد عسى أن يأتي من دون اضطرابات ولكن يبدو أن “الدّمويّة” تقليد لبنان منذ قرون!
لم ننجُ، ليس السياسيّون وحدهم المتواطئين على اللحظة التي وصلنا إليها، حتى إذا أزحنا الانقسام العمودي كـ 8 و 14 آذار وقلنا فليختر الموارنة من يمثّلهم سنجد أنّهم منقسمون فرقاً وأحزاباً ورؤوساً كثيرة وليس الحال بأفضل عند الدروز فقد أصبحوا بثلاثة رؤوس ولا عندّ السُنّة الذين أصبحوا برؤوس صغيرة مستتبعة لحزب الله وسوريا والسعوديّة والحال عند الثنائي الشّيعي ليس بأفضل وفي أي وقت قد ينقلب تحالف القوّة بينهما إلى حرب دمويّة كتلك التي عاشوها في ثمانينات القرن الماضي، وإذا رضينا بأكذوبة الرئيس التّوافقي بعد موت نظريّة “الرّئيس القوي” برحيل ميشال عون، سنجد أنّ حزب الله سيعيد فرض الرئيس الذي يريده في الرئاسة في انتظار وضع نظام جديد للبنان غالباً سيكون نائب الرئيس فيه شيعي إن لم يكن الرئيس نفسه شيعياً!!
لم ننجُ، يبدو أنّنا لسنا كياناً حقيقياً، أيّ دولة هذه التي كلّ عشرين عاماً تقريباً تمضيها في المهاترات والاضطرابات فتلجأ بضغط دولي إلى وضع نظام جديد لها ينتهي بفشل دموي، وأي دولة هذه التي تحتاج منذ مئة عام كلّ أربع سنوات إلى قانون إنتخابي مفصّل خصّيصاً للإبقاء على الاضطرابات والانقسام، قد نكون نجونا من مرحلة ميشال عون وصهره جبران باسيل ولكن أزمة لبنان أبعد وأعمق من ذلك بكثير، فلا تبتهجوا كثيراً لأنّ الأيام المقبلة اضطراباتها تسبقها!