صَدَقَ المثل القائل سَلْ مجرَّباً ولا تَسَلْ حكيماً. ولبنان يصلح أن يقدّم نفسه لأجياله وناسه وللآخرين على أنه معتّق كالخلّ لا كالنبيذ في ميادين التجارب.
ويصحُّ فيه القول إنه من تجربة إلى أختها، ومن صحوة إلى كبوة، ومن أزمة إلى مأزق، ومن مؤتمر في الطائف إلى مؤتمر في الدوحة، وربما من مؤتمر في الدوحة إلى مؤتمر قيد الدرس والإعداد… مع تحديد الزمان والمكان.
أما التجارب فقد علّمتنا في الماضي القريب كما في الماضي البعيد أن التغييرات والانتقالات السياسيّة – الدستوريّة التي شهدها بلد الثماني عشرة طائفة والعشرين سنة من الحروب الحامية والساخنة والفاترة، إنما يُمهَّد لها عادة بتحرّكات، وتحرّشات، وتظاهرات هي مزيج فولكلوري يتضمّن المخمَّس مردود، مثلما يطلق العنان للفوضى وأعمال التحطيم والتخريب، بلوغاً للمواجهات بالعصي والحجارة والشتائم والأناشيد الحماسية، مع وصلات من طلقات ناريّة لا تلبث أن تحوّل الأمكنة ساحة وغى والناس أفراداً في ميليشيات متعدّدة الهدف والشعار والهتاف.
في هذه الأيام والساعات تحديداً، يعيش اللبنانيّون حالات وتحرّكات وتجمّعات مصحوبة بهتافات وأناشيد وأغانٍ، تكاد بكل تفاصيلها أن تعيدنا إلى الماضي، أو تعيد الماضي إلينا.
ما من مسؤول، أو مرجع، أو وزير، أو نائب، أو خبير سياسي، أو مخضرم يملك أن يجيب عن سؤال عن هدف هذه التظاهرات التي بدأت تختم وصلاتها باشتباكات “فولكلوريّة” محدّدة المعالم، وأين تصبّ بمحصلتها: في خدمة إسقاط النظام حيث يمكن أن يكون ثمة مستفيدون ومشجّعون، وأصحاب نيّات وأهداف، أم في إزالة جبال الزبالة التي تكاد تتحوّل “سلسلة جبليّة” جديدة، أم في الإصرار على إقالة وزير البيئة تمهيداً لاستقالات أخرى “جاهزة” تجعل الحكومة السلاميّة التي تحفظ الدولة والمؤسّسات والدستور عاجزة… ليفرط البلد وكل ما فيه، ولغاية أو غايات شتى في نفس أكثر من يعقوب، وفريق سياسي؟
في هذا الوقت أطلّ الرئيس نبيه برّي بمبادرة إنقاذية كنا قد تمنّينا على السيد حسن نصرالله أن يفاجئنا بمثلها أو بأشمل ربما. لا بأس. الآن لدينا دعوة إلى طاولة مشاورات وحوارات، ومناقشات يُنتظر أن تسفِر عن نتيجة إيجابيّة ما. عن حلٍّ ما. عن مخرج ما…
على أن تصبّ كل الاحتمالات وكل المحصلة في خانة التعجيل الفعلي العملي في انتخاب رئيس للجمهوريّة، يضع انتخابه حدّاً للمخاوف والهواجس والمخاطر التي تحاصر اللبنانيّين برّاً بحراً جوّاً.
لا يتردّد كبار الساحة، وكبار الخبرة، وكبار القامة في السياسة من القول والتأكيد إن مبادرة برّي الحواريّة تشكّل في هذه الظروف المشرَّعة مادة امتحان لجميع الفئات والانتماءات والتجمّعات والتكتّلات والأحزاب. فإما أن يكونوا مع الفوضى ونتائجها التدميريّة في سبيل “مؤتمر تأسيسي” كما يشاع، وإما أن يكونوا مع لبنان الوطن الرسالة.
طاولة الامتحان في انتظاركم.