يستمر مسلسل العقوبات الأميركية، فارضاً إيقاعه على لبنان. لكنه أيضاً يضع دول الاتحاد الأوروبي أمام تحدي التماهي مع واشنطن أو تحييد نفسها. فيما تواصل إيران رفع سقف المواجهة
رغم كل المحاولات لإبعاد لبنان عن التجاذبات الإقليمية، إلا أن الاستحقاقات الأميركية والدولية تبقيه دوماً على خط التوتر. فبدءاً من اليوم، ومع التحدي الذي تضعه الولايات المتحدة أمام لبنان في مواجهة العقوبات التي ستفرض عليه وعلى حزب الله، يصبح الكلام جدياً أكثر، على مستوى الرئاسة والحكومة، والعلاقات الداخلية التي زادت التأثيرات الإقليمية من توترها أخيراً.
وإذا كانت إيران قد وجّهت، عبر الرئيس الإيراني حسن روحاني، رسالة واضحة حول الساحات الأساسية التي تتمسك بها من العراق إلى سوريا ولبنان، فلأنها تدرك أن ما تضعه واشنطن على الطاولة دفعة واحدة، ليس أمراً عابراً، بدءاً من مراجعة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للاتفاق النووي مع إيران، مروراً بالكلام الأميركي الرسمي حول انفجار المارينز في بيروت عام 1983، وصولاً إلى تصويت الكونغرس على العقوبات. وفيما تسعى أوروبا إلى امتصاص الهجمة الأميركية حول الاتفاق النووي الذي قايض ترامب موقفه منه بالعقوبات على حزب الله، فإن هذه العقوبات قد تزيد من عوامل الضغط على أوروبا لمجاراة واشنطن في المنحى التصعيدي تجاه الحزب. فحتى الآن، حيّدت أوروبا نفسها عن كل ما يتعلق بالعقوبات الأميركية المباشرة على حزب الله بعدما «اخترعت» عام 2013 الفصل بين الجناحين العسكري والسياسي للحزب في محاولة استيعابية، وكذلك فعلت أخيراً مع إبعاد نفسها عن تداعيات الموقف الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران.
خصوم حزب الله يتصرفون تحت سقف التداخل بين الحزب والتركيبة الرئاسية والحكومية
لكن بقدر ما تحاول أوروبا اليوم عدم السير عشوائياً وراء واشنطن، كما حصل في محطات إقليمية سابقة، إلا أنها أيضاً ستكون أمام تحدي التجاوب مع المطالب الأميركية، مع رئيس كترامب لا تتوقع دوماً تصرفاته، والحرص على البقاء على مسافة متوازنة مع إيران التي تعيد تدريجاً علاقات اقتصادية معها، ومع حزب الله. وتجربة السنوات الماضية دلت على حرص دول أوروبية فاعلة على نسج علاقات تراوح بين الحد الأدنى والجيد مع حزب الله. وهنا تكمن حساسية موقف هذه الدول، الغارقة أصلاً في كمٍّ من المشاكل الداخلية والأوروبية والدولية، مما سيصدر عن واشنطن، لأنه سيضعها مجدداً أمام إحراجات على مستوى علاقاتها مع إيران (علماً أن روحاني لم يوفرها في كلامه أخيراً) والحزب. فأين ستقف فرنسا الذي يزور رئيسها لبنان في الربيع المقبل، وأين تقف ألمانيا وبريطانيا اللتان تقدمان مساعدات عسكرية إلى لبنان، وهل ستفصل أيضاً هذه الدول بين حزب الله المشارك في الحكومة وبين الحكم ككل، وتغضّ النظر عن أي موقف أميركي، على غرار ما يفعل لبنان الرسمي والمصارف، للتخفيف من تأثيرات العقوبات وإظهار عدم التأثر بها.
فلبنان يستمر في تجاهل كل تداعيات المنطقة وأحداثها، حتى الحادث الجوي الذي حصل في الأجواء اللبنانية باستهداف صاروخ سوري لطائرة إسرائيلية، مرّ كحدث عابر على رغم خطورته، كما يمرّ أي تطور يتعلق بالجولان السوري، وتشابك الأحداث والتدخلات فيه مع جولة القصف الأخيرة، ليصبح الاهتمام اللبناني محصوراً باليوميات المحلية الصرف. في حين أن كل ما يسجل من رسائل مرت جواً فوق لبنان أو في سوريا والعراق وكردستان والكلام عن دخول الحشد الشعبي إلى كركوك، إنما تصبّ في خانة تنظيم إيران لصفوفها في الساحات التي حددها روحاني.
ورغم أنها ليست المرة الأولى التي تعيد طهران التذكير بمواقع انتشارها من العراق إلى المتوسط، إلا أن كلام روحاني، بحسب من يقرأه لبنانياً، يعكس هذه المرة رسالة إلى الحلفاء كما الخصوم. فطهران لا توجه رسالتها إلى واشنطن فحسب، بل إلى كل طرف يريد أن «يبيع ويشتري» على حسابها في هذه المرحلة الحساسة، سواء كان المعنيّ بذلك روسيا التي تحاول إبقاء دورها متقدماً على الدور الإيراني في سوريا، تزامناً مع زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو لإسرائيل، وزيارة رئيس الأركان العامة الإيراني محمد حسين باقري لدمشق، أو أي طرف عراقي «يستجير» بالسعودية، لأن إيران تدرك محاولات تطويقها، وسحب ملفات من يديها كتجربة اللقاء بين حماس والسلطة الفلسطينية.
قد يكون لبنان الساحة التي ترتاح إليها إيران اليوم أكثر من غيرها، لأنها باتت متمكنة من دورها فيه من دون تدخلات إقليمية أو دولية أخرى. ولأن وضع حزب الله فيه أصبح، مع الوقت، أكثر استقراراً وانسجاماً مع التركيبة الداخلية. وليس بسيطاً أن الكلام عن سلاح حزب الله والاستراتيجية الدفاعية ووجود الحزب في سوريا، لم يعد متقدماً في الخطاب السياسي لخصوم حزب الله المشاركين في الحكومة. كذلك لم يعد بسيطاً أن هؤلاء إنما يتصرفون تحت سقف أن هذا التداخل بين الحزب والتركيبة الرئاسية والحكومية، بات أمراً واقعاً ولا خروج منه، وبأن الحزب بات يحظى أكثر من أي وقت مضى بتغطية رئاسية وحكومية غير مسبوقة. والردود من أعضاء الحكومة على روحاني تبدو، في مكان، باهتة، ما دام سقف جميع الذين شاركوا في التسوية ضمان البقاء في الحكومة وتمرير الصفقات، في انتظار ما ستقرره واشنطن من عقوبات على حزب الله، أو السعودية من نية لإعادة التوازن الإقليمي بدءاً من بيروت.