انتهى الدعم بصيغته السابقة، وبات على الحكومة أن تبحث عن موارد مالية لتمويل حصول الأسر الأكثر حاجة على السلع الرئيسية. انتظر المسؤولون وصول «الموسى إلى الرقبة» حتى يبحثوا في البديل، فانطلقت الاجتماعات في السرايا. المقاربات تدور حول ترشيد الدعم للاستفادة من الدولارات المتبقية، من دون البحث بوسائل أكثر استدامة، كفرض الضرائب وجباية الرسوم
مرحلة «الاستفادة» من تثبيت سعر الصرف على 1515 ليرة لكلّ دولار انتهت، ولم يعد النقاش في البلد يتعلّق في ما إذا كان استيراد المحروقات والأدوية والقمح وبعض المواد الغذائية سيستمر أم لا. يُفترض أن يكون البحث قد انتقل (أخيراً) إلى مستوى تحديد السياسة الاجتماعية الاقتصادية للدولة، وكيف سيكون «الدعم» (الحقيقي) واحدةً من أدوات التعامل مع الأزمة العميقة، بدل أن يكون الدعم هو الأزمة. عملياً، ما زالت «ورشات العمل» في السرايا الحكومية تُركّز على «القشور»، ككيفية تمديد صلاحية نموذج العمل القديم. تقول مصادر مالية مُطلعة على النقاشات الحكومية إنّ «أحداً لا يملك تصوّراً أو رؤية عملية، الأرجح أن ينتهي الأمر بفرض رفع الدعم بحُكم الظروف الحاكمة». وفي هذا الشقّ، لا يؤخذ في الاعتبار مصدر تمويل «الدعم» (أكان لاستيراد المواد أم لتوزيع المساعدات على المواطنين) في حال توقّف مصرف لبنان عن تأمين 85% من قيمة المواد المستوردة بالدولارات المودعة لديه. فما هي الخيارات المُتاحة حكومياً؟
«أي مقاربة للموضوع لا تشمل الطبقات الثلاث التي يتألف منها ملف الدعم، هي مقاربة ناقصة»، يقول أحد الخبراء الاقتصاديين. الطبقة الأولى هي الدولار، «ففي بلدٍ يُعاني من شحّ في العملة الأجنبية، من أين سيتمّ تأمين الدولارات لتمويل الاستيراد؟ من السوق يعني أنّ من يملك مبالغ كبيرة بالدولار، سيعتبر أنّه حتى لو رُفع سعر الصرف إلى 20 ألفاً سيكون هناك طلب عليه من تجّار يهمّهم تأمين ديمومة الاستيراد، ما يعني انفلات سعر الصرف في السوق السوداء». الطبقة الثانية هي سعر المواد المدعومة «الخاضع لاحتكارات بُنيوية في النفط والقمح والدواء. هل ستقوم الحكومة بتفكيك الاحتكارات وتُنشئ مؤسسة تتولّى استيراد المواد الرئيسية لتُباع بسعر الكلفة فقط؟». أما الطبقة الثالثة، فتتعلّق بالسكان «غير المُحتاجين إلى بطاقات تموينية، بل إلى سياسات اجتماعية – اقتصادية تبحث في كيفية رفع الحدّ الأدنى للأجور لمواجهة التضخم وارتفاع الأسعار وانهيار العملة». فالخيارات المطروحة حالياً، وتحديداً دفع مبلغ شهري للأسر الأكثر فقراً، «خيار احتيالي، سيؤدّي إلى إفقاد الليرة لقيمتها».
من وجهة نظر عميد كلية الاقتصاد في جامعة «الحكمة»، جورج نعمة «الوضع صعب لأنّه لا يوجد سعر صرف مُوحّد». أما الخيارات المطروحة «بغياب الدولارات من الخارج»، فتُراوح بين «أن يُخفّض مصرف لبنان نسبة التوظيفات الإلزامية، ولكنّها عملياً أموال يجب أن تعود إلى المصارف لتُضخّ في السوق، أو درس آلية لترشيد إنفاق ما تبقى من دولارات إلى حين تشكيل حكومة وفتح الطريق أمام مفاوضات مع صندوق النقد الدولي». يُشير نعمة إلى أنّ «الدعم مسؤولية الدولة وليس مصرف لبنان، ويجب أن تلجأ إلى الإنفاق العام للاهتمام بالأكثر فقراً. عادةً تؤمَّن هذه المبالغ من الضرائب والرسوم، ولكن بوجود خزينة عامة مكسورة، ستعود الدولة إلى مصرف لبنان، وهنا ندخل في عملية خلق النقد (طباعة الليرة) التي لها تداعيات سلبية، تحديداً في رفع معدلات التضخم». بالنسبة إلى نعمة «الأولوية تحسين الأوضاع الاجتماعية والقدرات الشرائية للناس، أي الإصلاح الاقتصادي الفعلي».
يُضيف الاقتصادي روي بدارو إلى ذلك وجوب وضع «سياسات ضريبية وتنموية. أجريت دراسة بيّنت أنّ كلفة الدعم الشهرية ممكن أن لا تتعدّى الـ100 مليون دولار، تُموّل عبر إلغاءات الإعفاءات الضريبية، وفرض ضريبة على القيمة المُضافة تُراوح بين 5% و20%، حسب القطاعات». بالتزامن يجب «إلغاء الرسوم الجمركية لتتدنى أسعار البضائع، شرط إلغاء كلّ الاحتكارات لتشجيع المنافسة والاستثمارات الجديدة». يُجادل اقتصاديون آخرون بضرر إلغاء الرسوم الجمركية حالياً، «لأنّ ذلك سيُشجّع على التهريب أكثر، ويفتح المجال أمام غزو السوق من البضائع الأجنبية، ما يُصعّب تشجيع الصناعة والزراعة محلياً. على العكس من ذلك يجب أن تُرفع نسبة الضرائب على كلّ ما ليس أساسياً، وتوجيه الأموال لدعم الصناعات المحلية التي تُعيد إنتاج رأس المال وليس دعم سلع ستُبدّد بعد أشهر».
الأهم من كلّ ذلك، بحسب روي بدارو، هو «إلغاء الضرائب التي تزيد من كلفة العمل ليبقى سوق العمل فعّالاً، ووضع سلّم متحرّك للحدّ الأدنى للأجور شهرياً». بدارو كان قد طرح أن يحصل لبنان على حصّته من سلّة «حق السحب الخاص» التابعة لصندوق النقد الدولي، «قسم منها من دون فائدة وقسم فائدته بسيطة، حتى نتمكّن من تخطّي الأشهر المقبلة قبل إعادة تكوين السلطة».
يُمكن تمويل الدعم عبر إجبار من استفاد من الفوائد المرتفعة على إعادتها
مشكلة النقص في الدولارات يطرحها أيضاً مدير مؤسسة البحوث والاستشارات، كمال حمدان. فغياب العملة الأجنبية «يُصعّب البحث عن حلّ للتمويل». في الوضع الراهن، تكون الخيارات «إما بتخفيض نسبة التوظيفات الإلزامية كما يُبحث حالياً، وإما تلجأ الحكومة إلى مصادر استيراد أرخص وبشروط يُمكن الالتزام بها، كمقايضة بضائع أو تقسيط الدفعات». ولكنْ هناك خيار آخر، وهو «إجبار كلّ من استفاد من الفوائد ما فوق الطبيعية، ويُقدَّر مجموعها بـ30 مليار دولار، أن يُعيدها. داتا هؤلاء موجودة، وإعادتها أمر سهل. المشكلة بغياب القرار». يطرح حمدان أيضاً «تعديل نظام الضرائب وإعادة الاعتبار للضريبة التصاعدية، ولكنّها خطوة صعبة اليوم بسبب الانهيار الشامل وانسحاب شركات كُبرى من السوق، وتطبيقها يأتي على المدى المتوسط».
الاحتمالات المذكورة (كتمويل تطوير الصناعات المحلية، زيادة الرسوم الجمركية على السلع غير الأساسية، وضع نظام ضريبة تصاعدية، تفعيل سوق العمل، استرداد الفوائد «غير الطبيعية»…) غير موضوعة على أجندة المسؤولين الذين بدأوا ورشات عمل في السرايا الحكومية. ما يُبحث محصور ضمن توزيع «كوبونات محلية» بالليرة (هذا الطرح عارضته قبل 6 أشهر كارتيلات النفط والقمح)، وبين توزيع مساعدات نقدية لما بين 500 و600 ألف عائلة، على اعتبار أنّ ذلك سيُخفّض كلفة الدعم إلى ما دون المليار ونصف المليار دولار سنوياً، تُموّل عبر طبع العملة.
يتحدّث الاقتصادي الفرنسي، توماس بيكيتي عن مفهوم «الدولة الاجتماعية»، فيشرح بأنّ إعادة التوزيع الحديثة للثروة في الدولة الاجتماعية «لا تقوم على تحويل الثروات من الأغنياء إلى الفقراء، على الأقل ليس بطريقة مكشوفة، بل على تمويل خدمات عامة، ولا سيّما التعليم والصحة ومعاشات التقاعد». يُفترض أنّه كلّما ارتفع الدخل الذي يناله مواطن، «انخفضت المنافع التي يحصل عليها»، هكذا تتمّ زيادة المنفعة العامة «من خلال إعادة التوزيع من الأغنياء إلى الفقراء». يأتي تعريف بيكيتي، ليؤكّد أنّ لبنان لا يمتّ إلى «الدولة الاجتماعية» بصلة، وما «السطحية» في مقاربة أزمة استثنائية إلا دليل على ذلك.