ولاّد شرود غريب الوضع اللبناني الراهن: بلد منكوب في جملته، في دولته واقتصاده وماليته وخدماته ومعظم سياسيّيه وبعض “مجتمعه المدني” وفي تماسه مع لعنتين واحدة كيانية جنوباً وأخرى نظامية شرقاً وشمالاً وكل واحدة تبزّ الأخرى في “فعاليتها” وسمومها وآذاها.. ومع ذلك يتصرف بعض أصحاب الشأن وكأنهم في سويسرا أو الدنمارك أو في أي بلد آخر أنعم الله عليه بهدأة الريادة. ورفعة المقام. والرفاه المعقول. وسيادة القانون، وانتظام شؤونه وأحواله في كل مجال وقطاع!
والشرود غير التفكّر و”الامعان” في التفسير والتحليل والتدبير، إنما هو وليد صدمة أو جملة صدمات متتالية تجعل اللاوعي متقدّماً الى الأمام، ساحباً في طريقه بعض مكامن الإدراك وحسابات المنطق.. ومُطلقاً الاندهاش الى ذراه. أي أنه في خلاصته هروب من عجز عن الاستيعاب الواعي لجملة الاستحالات المتراكمة والمُسجّلة والمنشافة والمبرَّرة بإعجاز لا مثيل له يُعبّر عنه سفور أصحابها في الادعاء بـ”عادية” أدائهم و”طبيعته” و”حقّهم” في اعتماده من دون أي تردّد!
يمكن الزعم بأن بعض ذلك الأداء كان موجوداً منذ وجود الجمهورية المستقلّة! وربما قبل استقلالها تبعاً للتعدّد الطوائفي والمذهبي أولاً ثم السياسي المُستتبع تالياً وما يفرزه ذلك من تعدّد القطبية الزعامتية المحلية التي لم تستطع طبيعة النظام اختصارها برأسه مثلما درجت عليه الحال في أنظمة عربية كثيرة.. لكن تعبيرات ذلك لم تخرج عن الخفر وآداب السلوك والتواضع في السعي.. والأخذ في الاعتبار دائماً وجود “دولة” محكومة بدستور وقوانين وأعراف ترعى شؤونها وشؤون رعيتها.. ثم الالتزام بحدود للمناورة لا بدّ من احترامها وإلاّ انكسر الميزان وانخضّ الميدان وولعت النار وعمّ الشحار والشحتار مثلما حصل وصار مرّة واثنتين وثلاثة.. الخ.
لكن يمكن الزعم أكثر، بأنّ الوصاية الأسدية التي أخذت نصف عمر الجمهورية، انتهت فيما “ثقافتها” لا تزال موجودة! تعسّ وتسعى وتنفخ ادعاءات وتصريحات وخزعبلات وتشبيحات وزعْرنات ومصطلحات وتهتّكات ومخزيات وممارسات منحطّات! وهذه تعني من جملة معانيها أن تندحر أسس الدستور ومبادئه وبنوده وروحه ومعانيه، وأن تُداس القوانين بالأقدام، وأن تصير “الدولة” مفهوماً وسلطة ومعنى ومؤسسات شيئاً نسبياً غير واضح المعالم! ولا مكتمل المواصفات ولا يؤخذ في عين الاعتبار التي لا يجب أن تُبلى بالعمى! وأن يتنطح الصغير للعب دور الكبير! وأن يصير الفجور في التعبير الأنوي طقساً عادياً لا يستدعي الاستنكار والإدانة! وأن ينحدر الأداء الى سويّات العته التام بحيث أن “زويعماً” بالكاد وصل الى الندوة البرلمانية على أكتاف غيره يجد نفسه قادراً على إطلاق مواقف تهدّ الجبال! وتبلّط البحار! وتزعزع الكيانات والأمصار! في حال لم يُحسب حسابه في التشكيلة الوزارية الموعودة والمفترضة والتي صارت ممكنة أخيراً..!
ومثل هذا أمثال وظواهر نمت وتفتّحت على الدنيا أيام الوصاية الأسدية الموؤودة. وتشبّعت بأدائها وطرقها و”ثقافتها” وأساليبها وما عادت قابلة على استيعاب غير ذلك! ولا التأقلم مع أحوالها الأولى ووزنها “الصافي” بعد إنزال الثقّالات التي وضعها أهل الوصاية عليها في سياق سياسة الاستزلام والاستلحاق والزبائنية التي اعتمدوها لتثبيت سلطتهم وتدعيم تمكنهم من لبنان جملة وتفصيلاً.
الشرود علامة اندهاش.. ثم اندحاش في شيء من أشياء بيزنطية عشيّة أفولها!!