اعذروني، أنا لم أحضر نكبة فلسطين العام 1948، لم أكن ولدتُ حينها، اعذروني مجدداً، فيوم سقوط القدس الشريف في الهزيمة الشنعاء في حزيران العام 1967 لم أكن قد بلغتُ الثالثة من عمري بعد، اعذروني أيضاً، فيوم حريق المسجد الأقصى المبارك كنتُ في الخامسة من عمري فقط، اعذروني؛ أنا لا أعرفُ كيف أتعاملُ مع ارتباك مشاعري وتضاربها وألمها، اعذروني، أنا أعرف حجم تواطؤ الجميع على القدس الشريف، وأنّ الاستنكارات والرّفض الذي تلا إعلان دونالد ترامب، وعقلي مدركٌ أننا نعيش أخطر لحظاتنا كأمّة إسلاميّة الخير سيبقى في نبيّها صلوات الله عليه وفيها، وكأمّة عربيّة مفقودٌ الأملُ منها وفيها وبها، وحده بنيامين نتانياهو كان واضحاً في شكر دونالد ترامب باسم «الدولة اليهوديّة»، إعلان يهوديّة القدس وطرد شعبها منها لم يعد بيننا وبينه إلا قيد أنملة!
اعذروني، كلّي يقين أنّ من يُفرّط بالقدس يُفرّط من حيث لا يعلم بالحرمين الشريفيْن مكّة والمدينة، اعذروني قلبي يُوجعني على حالنا، في لبنان وسوريا واليمن وليبيا والعراق وفلسطين والقدس، والدّور سيأتي على البقيّة تقسيماً وشرذمة وتقتيلاً، سيأتي الدّوْر على كلّ بلاد العرب ذات النشيد الشهير «أمجاد يا عرب أمجاد»، اعذورني «أمجاد أوغاد»!!
اعذورني، لا أريد أن أطيل الكلام، لا كلام يُقال في حضرة تآمر العرب لتضييع القدس الشريف، ما أشبه اليوم بالأمس في 21 آب 1969، عندما أُشْعِلتْ النيران في الجامع القبْلي في المسجد الاقصى الشريف، كان المشهد أشدّ وطأة من الأمس بكثير جداً، لكنّه كان مشابهاً له، خرجت الشعوب في العالمين العربي والإسلامي في تظاهرات في كل مكان، يومها ـ وكما شاهدتم بالأمس ـ شجب القادة العرب هذه الفعلة، وكانت خلاصة ذلك الحدث الجلل إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، التي لم تفعل شيئاً للقدس وفلسطين منذ إنشائها!
عقل مصدوم بالرّغم من معرفته بكلّ ما يحاك للقدس ومنذ سنوات، ليس بالأمس فقط، ومع هذا لم يتحمل عقلي بالأمس سخافة ردود الفعل العربية على مستوى الحكام بما فيها ردّ فعل القيادة الفلسطينيّة، أمّا عن مشاعري المرتبكة المهشّمة كمواطنة لبنانيّة أولاً، وكمسلمة عربيّة، فأنا ومن فوق كلّ هذا السواد الذي لفّنا حزناً وقلقاً منذ الأمس، أنا مؤمنة إيماناً تامّاً كاملاً لا تخالطه ذرّة شكّ بقول الله تعالى الحقّ في قرآننا العظيم: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرا) [الإسراء: 4 ـ 7] صدق الله العظيم.
أعذروني، لا أجد ما أقوله للقارىء سوى كلمات أستعيرها من مجموعة قصصيّة صدرت قبل أسابيع في القدس تحمل عنوان «عُشّاق المدينة» للكاتبة نزهة رملاوي تحكي فيها حكايا القدس وناسها، كلمات تختصر لحظات حريق المسجد الأقصى عام 1969، لكنّها تروي أيضاً حالنا بالأمس لأنّ الزمن العربيّ والفلسطينيّ يُعيد نفسه هذه كلمات من حكاية «نعيمة»: «استترت نعيمة، غطّت ضفائرها وخرجت تتّبع الصّوت القادم من سطح المنزل المجاور لمنزلها، هرعت النّسوة إلى أسطح منازلهن، وراحت أبصارهنّ تقاوم شعاع الشّمس المرسل من خلف القباب لتشاهد ألسنة اللّهب المتصاعد هناك، وأخذن يبكين ويلطمن من هول المصيبة. يا الله… لا زال الدّخان الأسود يتصاعد في ذاكرة طفلة، وقفت بجانب أمّها على سطح المنزل كباقي النّسوة، وأخذت تسأل أمّها: لماذا تبكين؟
أجابت بصوت متقطّع: حرقوا الأقصى.. الله يحرقهم، الله يحرقهم. تسابقت الأقدام والأرواح إلى باحاته، لم تتخلّف الأيادي عن حمل أيّ شيء وتعبئته بالماء من أسبلته المحفورة في عمر الزّمن، وهرعت البيوت الملاصقة لإطفاء الحريق المندلع هناك».
ميرڤت سيوفي