IMLebanon

استراتيجية خروج

من بين الأشياء الكثيرة التي يقولها الاتفاق النووي بين الغرب وإيران، أن «الحياة في مكان آخر». يشكل الاتفاق خطوة إضافية في سياق خسارة الشرق الأوسط قيمته الاستراتيجية في السياسات الكبرى للقوى الغربية وتسليم هذه بنوع من القدرية تقبل بتغيير سادة المنطقة.

الاتفاق يتناسق تمام التناسق مع استراتيجية الخروج الأميركية من الشرق الأوسط الذي بات عموداً قيمته الاستراتيجية في عين الغرب –النفط وأمن إسرائيل– موضع تساؤل عميق في أوساط السياسيين والجمهور في الولايات المتحدة وحلفائها الدوليين. تعافت أميركا من «الإدمان على نفط الشرق الأوسط» بفضل ثورة تكنولوجيا النفط والغاز الصخريين بعدما صارت حقولها المحلية قادرة على تلبية القسم الأعظم من الطلب الداخلي، على أن تبدأ بالتصدير حوالى العام 2020 في حال أزيلت مجموعة من العقبات القانونية. التغير المذكور سيشمل أوروبا التي ستتخلص بفضل النفط والغاز الآتيين من أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا التي تؤدي دوراً متزايد الأهمية في المجال هذا) من ابتزاز روسيا النفطي ومن متاعب إمدادات النفط العربي. يتزامن ذلك مع خطوات واسعة في مجال الطاقة البديلة وترشيد الاستهلاك والوعي البيئي بما يساهم في تقليص أهمية النفط.

أمن إسرائيل الذي دفع الغرب أثماناً باهظة للحفاظ عليه وحمايته، لم يعد مهدداً بأي شكل من الأشكال. لا تواجه الدولة العبرية أي خطر وجودي وفق تقاريرها الأمنية السنوية وما زالت متفوقة على أعدائها متفرقين ومجتمعين. خرافة التهديد النووي الإيراني كانت من ضمن «عدة النصب» الإسرائيلية للبقاء ضمن مظلة الحماية الاستراتيجية الأميركية والأطلسية. لكن الأميركيين يدركون قبل غيرهم أن إسرائيل دولة غنية ومتطورة وتملك درعها النووية الخاصة وذراعها العسكري الطويل وقادرة على الدفاع عن نفسها من دون مساعدة الآخرين. أما الدرع الديبلوماسية، فجاهزة دائماً للحيلولة دون إدانة إسرائيل في المحافل الدولية حتى لو ارتكبت جرائم حرب موصوفة، على غرار ما فعلت في غزة قبل عام. ولا ينتطح عنزان حول أن ضمان أمن إسرائيل كان في مقدمة تفكير الديبلوماسيين الأميركيين وخلفيته أثناء المفاوضات مع الإيرانيين.

بهذا المعنى، يمثل الاتفاق المُعلن أمس الأول حجر الأساس للانكفاء الغربي عن المنطقة بعد اضمحلال الحاجة إليها. ستعاد «السيادة» إلى سكان الشرق الأوسط بكل مكوناتهم، حيث ستستمر تناقضاتهم وصراعاتهم ضمن موازين القوى التي ستشهد تبدلات جذرية. وسيتعاون الغرب مع القوى والدول القادرة على الدفاع عما تبقى من مصالح له ههنا، مثل مكافحة الإرهاب، الذي قد يجد طريقه إلى دياره، سيان عنده أكان الطرف المتعاون سنياً أو شيعياً أو يهودياً، عربياً أو فارسياً أو كردياً، يمنياً أو شامياً أو أشكينازياً.

بكلمات ثانية، سيطلق الاتفاق ديناميتين متوازيتين: الأولى خارجية، على صعيد تفاقم الصراعات بين الكيانات السياسية القائمة وتلك الطامحة الى القيام، مثل «الخلافة» والدولة الكردية. والثانية داخلية، ضمن دول المنطقة، حيث ستفضي الوقائع الجيو- استراتيجية الجديدة وتبعاتها الاقتصادية، إلى حراكات كبيرة غامضة الملامح حتى الآن، لكن ربما يكون الحراك الإيراني الداخلي الأجدر بالانتباه، حيث سيتصاعد التناقض بين «الدولة– النظام» وبين المجتمع لأسباب عدة، منها التغييرات الهيكلية المنتظرة في الاقتصاد، وتطلب الجيل الجديد من الإيرانيين فسحات أرحب من الحرية وحقوق التعبير.

أخيراً، يندرج الاتفاق الإيراني– الغربي ضمن آليات التخلص من آثار «سايكس– بيكو». بعبارة واحدة: ستدخل المنطقة طوراً مختلفاً نوعياً عما شهدته في الأعوام المئة الماضية. الخرائط يعاد رسمها بالدم، على ما قيل قبل شهور.