IMLebanon

فسحة للأمل

عرف اللبنانيون في السنوات القليلة الماضية أسوأ الظروف السياسية وأقساها، فيما الحريق يلف المنطقة العربية المحيطة بهم، فقضوا أيامهم ولياليهم وجهاً لوجه مع الخوف والقلق.

من حقهم الآن، وواجبهم، أن يرتاحوا قليلاً ويتنفّسوا الصعداء، بعد انتخاب رئيس الجمهورية في أجواء توافقية وتصالحية، وبعدما تلاقت أشدّ القوى السياسية تباعداً وتناقضاً على التصويت للمرشح نفسه العماد ميشال عون. وينتظر أن تتوّج هذه الخطوة بتشكيل حكومة جامعة توحي بالثقة، وتعكس رغبة القوى السياسية بوضع العمل محلّ الجدل وإحلال الإنتاجية محلّ المماحكة والتعطيل.

من غير العدل أن نبث التشاؤم ونتنفّس القلق عندما تكفهرّ السماء، ونمتنع عن الارتياح عندما تزول الغيوم، حتى ولو كان المستقبل محاطاً بالمخاطر والتحدّيات، فلكل ساعة ملائكتها، أو شياطينها.

ملء الفراغ الرئاسي بسحر ساحر وطرفة عين هو، في الظروف التي تعيشها المنطقة، مدعاةٌ لنوع من التفاؤل بوجود لبنان وبمستقبله. ففيما تتفكك دولٌ كانت إلى الأمس القريب أقوى من لبنان وأمتن، ويُطرحُ مصيرها في لعبة الأمم، يخرج لبنان بحلٍّ لأزمته الدستورية وتجديد لنظامه الدستوري وتأكيد لوحدته الإقليمية.

لا بدّ أن يتفاعل الاقتصاد اللبناني بشكل إيجابي مع الحدث. فإذا تتابعت الأحداث وتوّجت قريباً بتشكيل حكومة توافقية توحي بالاحترام، فستتعزّز ثقة الأسواق، أقلّه على المديَين القريب والمتوسّط، وتساعد في إعطاء «قبلة الحياة» لاقتصاد هو على شفير الاحتضار.

في عصرنا الحاضر لم تعد القرارات الاقتصادية الكبرى حكراً على السلطات فقط، بل إن الجمهور شريك أساسي في تحديد مسار الاقتصاد، وتوقعات الأسواق تؤثر تأثيراً كبيراً على مجريات الشأن الاقتصادي، فتقود المؤشرات وتحدّد التوجّهات صعوداً أو هبوطاً. والأسواق الخارجية، مثل الداخلية، تتلقّف الرسائل وتتفاعل معها وتشارك في تحديد المسار.

الثقة التي يفترض أن تنجم عن انتخاب الرئيس، وتشكيل حكومة جامعة ومنتجة وكفؤة، لا أحد يعرف عمقها وإلى أي مدى ستستمرّ. فهذا يتوقف على الوحي الذي سيرسله الطاقم الدستوري الجديد، للأسواق المحلية والخارجية، بعزمه على مواجهة المسائل الاقتصادية والاجتماعية. الموضوع يتعلق بتصوّر العملاء الاقتصاديين والأسواق حول جدّية الدولة في التصدّي للمشاكل المستعصية، لا حلّها.

حلّ المشاكل المتراكمة بات يتجاوز قدرات الدولة، والمنتظر، في أفضل الأحوال، هو مقاربة صحيحة لهذه المشاكل بهدف وقف التدهور عند مستواه الراهن وتمكين الاقتصاد من استيعاب معضلاته في مستقبل موعود.

الدين العام أصبح أكبر من الدولة، وهي لا تملك الأدوات المالية والنقدية لمواجهته والحدّ من أضراره وأخطاره. مع تحقيق الاقتصاد اللبناني معدّلات نموّ ضحلة تتراوح بين صفر بالمئة و 1.5 بالمئة في السنوات الخمس الماضية، ارتفع الناتج المحلي الاسمي حوالي 11 مليار دولار، بينما زاد الدين العام بمبلغ 17 مليار دولار. أصبح دين القطاع العام أكثر من 70 مليار دولار، ما عدا الديون غير المعلنة والتزامات مصرف لبنان الهائلة تجاه القطاع المالي.

ولا سبيل إلى استيعاب الدين إلا بلجم عجز المالية العامّة وتوسيع حجم الاقتصاد، وهذا يتطلب تدابير مالية لضبط العجز مترافقة مع نموّ اقتصادي مستمرّ في السنوات المقبلة، لا يقلّ عن 7 أو 8 بالمئة كل عام. هذا النموّ يتحقق بالسياسيات الصائبة والمؤسّسات الساهرة والنشطة، ويتحقق قبل كل شيء باستقرار سياسي مستدام وصراع سياسي لا يدمّر البلد لإلحاق هزائم محدودة بالخصوم. إنه يتطلب تصميماً صادقاً وجبّاراً، من كل الأطراف، على عزل لبنان عن الحروب المستعرة في المشرق العربي.

لا ضير من اللجوء إلى الحلم، فقد استعملت هذه العبارة كثيراً في الأيام الأخيرة، في الخطابات وعلى الشاشات والساحات.

المرض الخبيث والمقلق هو دين الدولة بالعملات الأجنبية. إنه قنبلة موقوتة مزروعة في أحشاء لبنان، ليس بمقدور أحد أن يقدّر أضرارها إذا قدّر لها أن تنفجر، لا سمح الله.

جرى ابتداع هذه الوسيلة للحدّ من أعباء الفوائد على الخزينة، وهي من وجهة نظر مالية واقتصادية «حيلة» خطرة ووسيلة غير مشروعة لأنها استعملت في تمويل إنفاق جار وغير منتج بعملات أجنبية، ولآجال طويلة. وقد تمادت الدولة في اعتماد هذه الأداة لتمويل جزء من العجز، وأيضا لتدوير سندات الدين المستحقة بالعملات. ارتفعت مديونية الدولة بالعملات من 21 مليار دولار سنة 2011 إلى حدود 30 ملياراً في الوقت الحاضر، أي إلى أكثر من نصف الناتج المحلي.

الذين استدانوا بالدولار، خصوصاً، تهرّبا من القرارات الصائبة، عبّروا عن اعتزازهم (!!!) لأن لبنان ليس مديناً للدول والمؤسّسات الأجنبية، على غرار البلدان التي أفلست ووضع مصيرها على طاولة الدول والمؤسّسات الدائنة. ولكن وضعنا أخطر كثيراً من أوضاع تلك الدول، لأن مصير النظام المالي اللبناني بأسره بات مرهوناً بقدرة الدولة على إيفاء هذه الديون، في استحقاقاتها.

هذه جوانب محدّدة ومختارة من الواقع اللبناني المظلم الذي نفترض أن مقاربته ستتمّ بطريقة صحيحة في عهد الرئيس ميشال عون، بالتعاون بين رئيس الجمهورية والمجلس النيابي وحكومات وفاقية واعية للمخاطر والتحدّيات ومتفهّمة لمسؤولياتها.

أوّل طريق الإنقاذ هي مصارحة مع الذات، ومصالحة مع الضمير.