الطبول الإقليمية والدولية، فضلا عن المحلية، بدأت تقرع مزامير التحذير الشديد متناولة الوضع الإقتصادي والمالي في هذا البلد المنكوب بمعظم زعاماته وفاعلياته الذين أتيح لهم على مدى سنوات بل وعقود مديدة، أن يملأوا جيوبهم وحساباتهم في المصارف في الداخل وفي الخارج بالمال العام ومن خلال عمليات نهب وسرقة موصوفة رفعت بهم إلى مرتبة القادة وكبار الوجهاء والمرشحين الدائمين لتبوُّء أعلى المناصب السياسية والإدارية، والساعين بشكل حثيث إلى أن تكون مساعيهم منصبّة على المؤسسة المنتجة للمال السائب، والمتخلخلة في خضوعها للقوانين والأنظمة وللمؤسسات الرقابية التي هزلت أدوارها وبات التخلص منها ومن رقابتها سهل المنال من خلال ابتداعات ومخالفات شديدة الإبتكار والتحايل وهؤلاء القادة الذين لم يفقهوا من معاني المسؤولية، إلاّ تلك المتعلقة باقتناص الفرص الدسمة وملء الجيوب والحسابات المصرفية بأقصى ما طالت أياديهم وذممهم الواسعة من مال حرام.
مواضيع الفساد هذه بكل ابتكاراتها، حدّث عنها ولا حرج، بعد أن كادت أن تصبح مكشوفة بالكامل، ومعروفة ومحددة بالأسماء والأرقام والجهات والفئات التي ترعاها وتحميها، وجميعها ما زالت سليمة معافاة متمركزة في بروجها العالية، ويد الملاحقة والعدالة تلاحق بخجل ووجل، من أمكنها محاكاتهم بلغته الإتهام والعقاب من صغار المتهمين.
أما الوضع الاقتصادي في هذا البلد المنكوب، فقد دخل في غيبوبة التنبه إلى خطورة أوضاعه المالية والإقتصادية التي دفعت به إلى حدود السقوط والإنهيار، في وقت قلّت بل اختفت فيه وسائل الإنقاذ والخلاص من شراك الهبوط إلى مهاوي الدول الفاشلة والمفلسة، ولنا في مواقف الدول العربية تجاهها بوجه الخصوص، خير مثال ودليل، على الموقع شبه المعزول الذي وضع لبنان أرضه وشعبه ومؤسساته فيه، ونتيجة لمستجدات عديدة، وفي طليعتها، نشوء دويلة مسلحة قلبا وقالبا، وقد اكتسحت دولته وسلطاته الدستورية جميعا، وباتت متحكمة بقراراته جميعا، بل في استمراريته كدولة بعيدة عن الأنواء والأخطار، حتى لباتت الهجرة، أهم وسائل العيش المستحدث فيه، وحتى لباتت الجهود التي بذلها الرئيس الحريري بخبرته الإقتصادية العملية وعلاقاته الإقليمية والدولية التي ورثها عن والده الرئيس الشهيد، تكاد أن تضيع وتضمحل، دون أن تتمكن حتى الآن من الإمساك بمفاصل التحقق على الأرض، رغم رغبة كثير من دول العالم في مساعدة لبنان للنهوض من كبواته لأكثر من سيب استراتيجي ومعنوي، ولكن هذه المفاصل، باتت تفلت شيئا فشيئا من أيادي جملة من الفئات والجهات المتخاصمة والمتلاطمة، وبعضها ما زال متشبثا بفرص قد يقتطعها لنفسه أو للجهة التي ينتمي إليها، وكان له في وقائع وفرص الماضي المتفلتة أوسع الأبواب والنوافذ التي تسمح له باستمرارية النفوذ إلى ما تبقى في هذا البلد من بقايا المنافع والفرص.
فخامة رئيس البلاد يُلطّف هذا الوضع ويعزوه إلى «قلة الخبرة» لدى «بعض» الساسة، بل هو يلقي بكل أوزاره في أحضان الآخرين، وهو يخاطب الجميع عموما، والبعض منهم خصوصا داعيا من لا يملك الخبرة منهم إلى الصعود إلى بعبدا حيث مكانتها ومكانة رئاسة الدولة… إذن الخبرة تكاد بموجب تصريحه الأخير، أن تكون محصورة في بعبدا وفي خبرة رئيسها ومعاونيه، أما بقية الجهود التي بذلت لإحداث توافق على الموازنة التي أشبعت حتى الآن دراسة وتعميقا لدى معظم الفئات والجهات، وتم توافق ما عليها ما بين معظم المسؤولين ومن بينهم رئيس الحكومة ورئيس المجلس ووزير المالية، (ويبدو أن هؤلاء ليسوا من أهل الخبرة؟!) وأنهم مسؤولون بالنتيجة التي وصل إليها فخافة الرئيس عن «التباطؤ» في إقرار الموازنة والمشروع العملاني الرامي إلى إنقاذ البلاد من هول ما تمر به من مهاوي إقتصادية خطيرة، وان الفشل، والتعثر الذي تلاقيه جهود التوافق على مجمل مضامين الموازنة، فهو عائد إلى «حزورة» فخامة الرئيس التي سبق أن أطلقها من بكركي بمعالم غامضة ملحِقا مسؤوليتها بمن تنقصهم الخبرة، والذين يقتضي أن يصعدوا إلى بعبدا ليتم استكمالها هناك «والمتهم» الرئيسي المقصود ولو تلميحا هو الرئيس الحريري الذي آثر رغم الانزعاج والرغبة المكبوتة في الرد، أن يبقي على هدوئه وحكمة تصرفاته، وهو يريد توحيد الرؤى والاقتراحات والعلاجات الأساسية بما يزيل عنها ملامح الصراع والتدافع والتدافش التي أطلت برأسها من خلال رأي يرفض الأخذ بعين الاعتبار الأوضاع المزرية التي يعاني منها ذوو الدخل المحدود وغير القادرين على تحمّل أي عبء إضافي من خلال أية ضريبة قد تفرض عليهم، وهو الرأي والموقف الذي أطلقه بكثير من الحماس، وزير الخارجية جبران باسيل في وسائل الإعلام كافة، وربما كان معاليه الخبير والمستشار الأساسي الذي يمكن الاستناد اليه في قضايا الاقتصاد والأوضاع الاستثنائية التي تمر بها البلاد والاقتراحات الحامية التي تطرح في أجواء هذه الايام الحافلة بالترقب الشعبي الشامل والاحتجاج المسبق على أية انتهاكات للحالات المزرية التي بات المواطنون اللبنانيون يعانون من أوزارها وتكدساتها وأثرها الموجع على حاجاتهم الأساسية وهمومهم المعيشية والآنية، وتخوفاتهم وتحسباتهم المستقبلية.
الاجتماع الوزاري المرتقب في بعبدا للبت بموضوع الميزانية، مرشح لأن يكون هائجا مائجا وحاسما في قراراته التي نأمل أن تداخلها الخبرة قولا وفعلا، والحكمة قولا وفعلا وأن تكون في خدمة لبنان وخلاصه من دوامة الأحداث الإقتصادية العصيبة التي تطاوله. وقى الله لبنان من تضارب المواقف و«الخبرات».