الصحافة اللبنانية ومواقع التواصل الإجتماعي وبرامج الحوارات السياسية والإقتصادية، والمنابر والنداوات والمؤتمرات، تضجُّ بالخبراء ولا سيَّما الإقتصاديين منهم! يكفي أن تضاف إلى إسمه كلمتان، أن تسبق إسمَه كلمتان حتى يصبح ذا شأن يجب أن يصمت الجميع ليستمعوا إليه، أمّا إذا كان ضيفاً في برنامج تلفزيوني، يتحوَّل ما يكتبه إلى مادة لل Forward ليجري تعميمها على كل الهواتف الذكية، بأسرع من الصوت، وليبدأ التداول بها على طريقة:
هل قرأتم ما كتب فلان؟
يأتي الجواب بصيغة سؤال: ومَن هو فلان؟
يأتي الجواب: ألم تقرأوا أنه خبير اقتصادي؟
يأتي الرد: وماذا يعني خبير اقتصادي؟ هل لديهم نقابة؟ هل هو اختصاص يُدرَّس في الجامعات ويتخرَّج فيه الطلاب بشهادة خبير اقتصادي؟
متى نتوقف عن استغباء عقول الناس والمحاولات المستميتة للتضليل؟
يخرج علينا إسم مغمور على سبيل المثال إسم يوسف علكة، من هو ومن أين جذور عائلة علكة، يلقِّب نفسه بأنه خبير اقتصادي، يحدّثنا عن أنَّ الليرة ستنهار وأنَّ البلد على شفير الإفلاس، وبأننا سنكون أمام يونان ثانية وإما فنزويلا، ويروح يلقي أرقاماً ومواعيد:
الدَين العام سيصبح عند العتبة الفلانية، في سنة 2022، والليرة اللبنانية ستبلغ العتبة الفلانية في الشهر الفلاني.
يُحدِث كل ذلك حالات هلع لدى الغالبية العظمى من المواطنين العاديين، الذين يتأثَّرون بإنهمار الأخبار والتقارير والدراسات على مواقع التواصل الإجتماعي، ليتبيَّن لاحقاً أنَّها أخبار خاطئة أو مضلِّلة أو بلغة العصر Fake news، ولكن بعد ماذا؟
بعد أن تكون قد فعلت فعلها المؤذي في الجسم اللبناني، تماماً كما يُعطى المريض الدواء الخطأ، فتبدأ المضاعفات السلبية في جسمه على أن يكتشف الذين أعطوه الدواء الخطأ أنَّهم تسببوا في تسميم جسمه.
***
ينتشر تقرير طويل عريض على مواقع التواصل الإجتماعي، عن مقال نُشِر في المجلة الأجنبية الفلانية المتخصصة، عن الواقع النقدي اللبناني وأنه سينهار، يجري التفتيش عن التقرير في هذه المجلة فتكون النتيجة المدهشة:
لا وجود لمثل هذا المقال! ولكن بعد ماذا؟
بعد أن يكون قد فعل فعله.
***
متى ستتوقف هذه المهزلة؟
ومَن سيوقفها؟
مَن يريد أن يتكلَّم فليتكلَّم، فحرية التعبير مقدَّسة، لكن ما هو غير مسموح هو انتحال الصفة، فلا يجوز لكلِّ مَن قرأ جملتين أو رأى عنوان كتاب من دون أن يقرأه، أن يُصبح خبيراً يحاضر في الإقتصاد والنقد والليرة ويُحدِث الهلع والرعب في نفوس الناس.
ها هي الليرة اللبنانية صامدة منذ أكثر من ربع قرن، والظروف التي مرّ فيها لبنان كانت أقسى وأقصى:
اغتيالات، وأبرزها الرئيس الشهيد رفيق الحريري. حروب، وأبرزها حرب تموز 2006، الحرب السورية ونزوح ما يزيد عن مليون ونصف المليون سوري إلى لبنان، فراغ في موقع رئاسة الجمهورية استمر سنتين وستة أشهر، وغيرها وغيرها من الأحداث الكبيرة.
ومع ذلك بقيت الليرة صامدة ولم يحدث الإنهيار، فهل يتوقف الخبراء عن إتحافنا كل يوم بأفكارهم النيِّرة؟
مؤمنون بلبنان الحلم الضائع، أمّا المسؤولون القيِّمون علينا فلا مكان لهم في حلمنا سوى إزعاجنا وإيقاظنا على كوابيس عجزهم.