أصبح اعتيادياً أن يصمت مسؤولون روس إذا انتقد محاوروهم إيران ودورها في سورية أو إذا هاجمها معارضون للنظام السوري، وأحياناً يشاركون بما يضيف إلى حجج الآخرين. في الآونة الأخيرة صاروا ينصتون ويشاركون أكثر في تفنيد ممارسات النظام ومواقف رئيسه. قبل ذلك لم يكونوا يمرّرون أي ملاحظة، بل يدافعون عن “شرعية” الوجود الإيراني ومحاربته للإرهاب، ويرفضون الاعتراف حتى بوقائع موثّقة عن عمليات تهجير وتغيير ديموغرافي ينفّذها الإيرانيون. في الوقت نفسه كانوا يستبعدون أي تعريض بالنظام أو بـ “شرعية الحكومة السورية” كما يسمونها. الجديد في موسكو أن الملف السوري لم يعد مشتركاً بين الدفاع والخارجية، بل بات حصرياً لدى الاستخبارات العسكرية. ما أوجب ذلك أن العلاقة الروسية مع بشار الأسد والإيرانيين أضحت خلافية وإشكالية في الجانب الأكبر منها.
قد يتناقض هذا الواقع مع التصريحات الأخيرة للرئيس الروسي الذي أكّد التنسيق مع النظام في شأن “عملية عسكرية” ما في إدلب، ونفى أي مسؤولية للنظام في تأخير استكمال أعضاء اللجنة الدستورية، بل نوّه بجهد لـ “الشركاء الإيرانيين” في هذا المجال. لكن يصعب القول أن النظام وإيران يشاطران فلاديمير بوتين إيحاءه بأن الشراكة الثلاثية على ما يرام، بل يعتبران أنه يوجّهه إلى الأطراف الأخرى، الولايات المتحدة وإسرائيل والأوروبيين والعرب، ويوظّفه في المساومات الجارية، خصوصاً تلك المتمثلة بتفاهمات يطوّرها بوتين مع بنيامين نتانياهو (تحديداً في شأن إيران) ويأمل بأن يتمكّن الأخير من استغلال علاقته الخاصة مع الرئيس دونالد ترامب لإقناع واشنطن بمعاودة التحادث مع موسكو، أقلّه في الشأن السوري.
تتعارض الوقائع على الأرض في سورية مع المناخ العام الذي أرادت تصريحات بوتين إشاعته. هناك تنافس وصراعات بين موسكو وطهران على تقاسم النفوذ في القطاعات العسكرية والأمنية، وعلى مناطق السيطرة، وعلى القرارات “الحكومية”. كان الروس شكّلوا الفيلق الخامس الذي أصبح قوتهم الضاربة برّاً، وشرعوا أخيراً في تشكيل الفيلق السادس، كما ضاعفوا تدخّلهم في تعيينات الضباط وتسريحهم، محاولين إعادة هيكلة الجيش والأمن وفقاً لمعايير غير طائفية. في المقابل زادت الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد من التصاقها بالإيرانيين، الذين احتضنوا أيضاً الحرس الجمهوري وأدخلوا إليه عناصر من ميليشياتهم غير السورية. ومنذ فترة يتابع القريبون من النظام باهتمام التقلّبات التي تشهدها التعيينات في شعبتي الاستخبارات العسكرية والجوية، فيما يبدي الروس ثقة متزايدة بجهاز الأمن الوطني ورئيسه علي مملوك الذي تردّد أنهم طرحوا تعيينه نائباً للرئيس، وهو كان رفض سابقاً طلباً من رئيس النظام لوضع “داتا” الجهاز بتصرّف الإيرانيين. وعلى صعيد آخر دلّت اشتباكات ومناوشات في بعض مناطق حلب وحمص وحماة إلى صراع على خريطة النفوذ بين القوات الموالية لروسيا وتلك الموالية لإيران والنظام. أما بالنسبة إلى “القرارات الحكومية” فتمثّل الموافقة السريعة من الأسد على تأجير ميناء طرطوس لروسيا لمدة 49 سنة إحدى وقائعها الأخيرة، وقد جاءت بعد موافقته أيضاً على الترخيص لإيران بتشغيل مرفأ اللاذقية، غير أن اجتماعات اللجان المكلّفة بتنفيذ التعاقد مع الإيرانيين شهدت أخيراً فرملة: فتّش عن روسيا، التي تتولّى هنا عرقلة وجود إيراني على المتوسّط لا تريده أي من الدول الإقليمية، بالإضافة طبعاً إلى الولايات المتحدة.
لا يزال بعض أوساط النظام يعتقد أن الأسد حقّق نجاحات في اللعب على الحبلين الروسي والإيراني، إذ جعل الطرفين حريصين على بقاء النظام وعلى إدراج الحفاظ عليه في أهدافهما الاستراتيجية. وفي المرحلة الأخيرة ضاعف رهانه على إسرائيل، أو أن إسرائيل أوحت له بأنها متمسّكة به بدليل أنها استجابت طلباً من بوتين فأفرجت “كبادرة حسن نية” عن أسيرين (سوري متهم بتهريب مخدّرات وفلسطيني اجتاز الحدود للقيام بعملية ببندقية صيد). كان النظام يتوقع أسرى آخرين، لكن إسرائيل لا تزال تطالب برفات عميلها ايلي كوهين وجنديين في لبنان عام 1982 مع الثالث زخاريا باومل الذي سلّمت رفاته بطلب روسي بعد أيام من نيل نتانياهو اعتراف الرئيس الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان. وحين عقدت الجولة 12 من مسار استانا أكدت الدول الثلاث (روسيا وتركيا وايران) رفضها القرار الأميركي الخاص بالجولان، باعتبار أن وحدة الأراضي السورية من “ثوابتها”، إلا أنها لم تشر إلى تشديد العقوبات الأميركية على إيران و”حزب الله” مع أنه مرشح لأن ينعكس على الوضع السوري، ولا إلى تشديد العقوبات على النظام والمناطق الواقعة تحت سيطرته وعجز روسيا وإيران وكذلك امتناع تركيا عن مساعدته.
لم يكن الوضع المعيشي للسوريين، موالين ومعارضين، ليشغل الروس لولا أنهم استشعروا أخيراً أن أزمة الوقود والمواد الغذائية وازدياد النقمة الشعبية باتت تشكّل قلقاً أمنياً حتى في المناطق الأكثر موالاةً للنظام. وقد استنتج ممثلو “الهيئة التفاوضية” للمعارضة هذا القلق خلال لقائهم مع وفد روسي في الرياض، إذ تناول رئيسه ألكسندر لافرنتييف الوضع الداخلي ليعبّر عن غضب موسكو من الدول الغربية ومن سير المعارضة وراء هذه الدول. ونقلت مصادر أن ممثلي المعارضة ردّوا بأن المشكلة كانت ولا تزال داخل سورية، وتتمثّل بالنظام وتعاونه مع إيران لعرقلة أي حل سياسي، وهو أنهما نجحا في حمل روسيا نفسها على تأخير تشكيل اللجنة الدستورية لنحو سنتين، أما الدول الغربية فقال ممثلو المعارضة أنها “لم تعد مكترثة” بالشأن السوري، بل بإخراج إيران من سورية قبل تحريك الحل السياسي. بدا الجانب الروسي خلال اللقاء واثقاً بأن اجتماع “استانا 12” سيحسم تشكيلة “الدستورية”، وهو ما لم يحصل، حتى أن بوتين نفسه كشف أن الخلاف يدور على ستة أسماء جرى تبديلهم أكثر من مرّة.
الأسوأ أن الجانب الروسي يساوم المبعوث الأممي غير بيدرسون على تقاسم هذه الأسماء (3 بـ 3، أو 4 مقابل 2…)! على الجانب الآخر يحاول عدد من أعضاء اللجنة (على لائحة النظام) إيصال رغبتهم في التملّص من هذه المهمة للتخلّص من الضغوط التي يتوقّعونها. وفيما تتجنّب البعثة الأممية التدخّل في الأمر لأنه خارج صلاحيتها، إلا أن استياءً بدأ ينتاب رئيسها بيدرسون بعد مضي خمسة أشهر من دون أن يتقدّم ولو خطوةً واحدة. فإذا كان الخلاف على الأسماء استغرق كل هذا الوقت فكم سيستغرق الاتفاق على طريقة عمل اللجنة وعلى الآليات الضرورية والمناسبة لتطبيق الدستور بعد إنجازه. الواقع أن الجميع يتطلّع إلى تسهيلات روسية، ضغطاً على النظام ولجماً للإيرانيين، لكن موسكو حتى لو كانت راغبة لا تبدي استعداداً للتحرّك ما لم تتعرّف إلى ما ستجنيه في المقابل.
يعتقد الأسد أنه ونظامه صارا نقطة تقاطع مصالح القوى الدولية والإقليمية، وأنهما سيستأنفان قريباً اللعب بالأوراق، إلا أن بعض الأوساط القريبة منه لا تخفي مخاوفها من جملة تطوّرات: أولها أن الروس جمّدوا عملياً الحسم العسكري واستعادة النظام كامل السيطرة ليدخلوا في صفقات مع الأتراك والإسرائيليين، ولاحقاً مع الأميركيين في حال استجابة واشنطن. وثانيها أن الأسد اندفع نحو الإيرانيين آملاً في مكاسب من استغلال احتدام المواجهة بين إيران وأميركا، ولم يقدّر أن أي مكاسب سيجنيها الروس لقاء تعاونهم ضد الإيرانيين. وثالثها أن الوضع في الجنوب تحديداً في درعا يزداد غموضاً بسبب نشوء حالٍ من المقاومة الشعبية ضد النظام مستفيدة من الوجود الروسي. ورابعها أن الائتلاف المعارض وحكومته الموقتة افتتحا للمرة الأولى منذ بدء الأزمة مقراً في ريف حلب الشمالي وتلقيا ردود فعل غربية إيجابية، وكان النظام دأب على تكثيف القصف على المناطق الحدودية لمنع إنشاء منطقة للمعارضة. وخامسها أن العديد من العسكريين السوريين المنكفئين تلقوا أخيراً “عروضاً أميركية” لتنظيم مجموعات مسلحة قادرة على التحرّك في شمال سورية من دون أن تحظى بحماية أميركية أو باعتراف رسمي.