من الصعب المباشرة بالتحليل الاقتصادي بعد كارثة بهذا الحجم حيث يعجز العقل قبل القلب واللسان عن التعبير والتفكير. تكمن المشكلة ليس فقط في حجم الانفجار والخسائر البشرية والمادية الهائلة التي حصلت، وانما أيضا فيما سبق من نواحي الاهمال والتقصير وغياب الضمير. كمية كبرى من المتفجرات تخزن لسنوات في مرفاء بيروت المواجه مباشرة وعلى مسافات قصيرة لأفضل الأحياء السكنية في العاصمة. جميع الذين علموا بهذه المتفجرات قبل 4 آب، ماذا اعتقدوا وبماذا فكروا وكيف يبررون اهمالهم بطريقة أو اخرى؟ كيف يعالجون مع أنفسهم وضمائرهم ماذا أهملوا؟ كيف يبررون اهمالهم لأن تجنب ما حدث كان ممكنا حتى قبل أيام من الجريمة التي لا توصف. ليست هنالك أعذار مقبولة!
حتى لو كان الهدف الاجرامي صنع قنابل من هذه المواد، كان ممكنا صنعها في مناطق نائية بعيدة عن القرى والمدن حيث لا يؤدي أي انفجار اذا ما حصل الى هذه الكمية من الخسائر. مجرد ابقاء المواد حيث هي في وجه بيروت جريمة بحد ذاتها ولا بد من المحاسبة والمحاكمة. استقالة الحكومة خطوة أولى لكنها لن تبتلع حجم المأساة التي تبقى على رأس المسؤولين وفي ضمائرهم منذ ان وضعت هذه المواد المتفجرة أي منذ سنوات طويلة. فكيف يمكن اعادة هؤلاء الأشخاص الى الحكم، اعادة من كانوا مسؤولين في الدولة منذ قدوم الباخرة وحتى اليوم. لا بد من وصول وجوه جديدة نظيفة خاصة في الضمير الى الحكم لتولي المهمات الكبرى.
قبل الوصول الى المجموعات النظيفة فكريا وضميريا وماديا الى الحكم والحكومة، لا بد من مرحلة انتقالية لستة أشهر تسمح بحصول انتخابات نيابية جديدة ينتج عنها حكم وحكومة جديدين. لا بد وأن تحصل هذه المرحلة الانتقالية بالتفاهم والتوافق، اذ يكفينا ما يحصل من عنف كل يوم في السياسة والاعلام والشارع حيث لم يعد يتحمل المواطن ما يحصل في وجهه من خراب ودمار وظلم وكذب. من الأفضل أن تتم هذه المرحلة الانتقالية تحت سلطة الجيش الذي يحظى بثقة واحترام الجميع في الداخل والخارج بالتعاون مع كل القوى الأمنية لتعيد كل السلطات الى المدنيين خلال 6 أشهر. لا بد من قانون انتخابات نيابية سريع ولما لا نبقي القانون الحالي اذا عجزت السلطات الجديدة الانتقالية عن وضع قانون جديد أفضل. انتخاب مجلس نيابي جديد خلال 4 أشهر ممكن وتبقى السلطات الانتقالية شهرين قبل تسليم كل شيء الى المسؤولين الجدد. لا بد وأن نترك للسياسيين والقانونيين تحديد الآليات التي تسمح بتحقيق هذا الانتقال الهادئ لمصلحة كل اللبنانيين وخاصة الأجيال المستقبلية.
هنالك خطوات كبرى انسانية يجب أن تتم سريعا وهي اصلاح الأملاك الخاصة خاصة المنازل بحيث يعود المواطن سريعا الى ما يشبه الحياة العادية لأن العودة الكلية مستحيلة. تكمن المشكلة في التمويل، وبالتالي تحديد الآليات العملية لايصال الأموال الى المواطنين مهم جدا. أموال المساعدات والتعويضات التي أقرت نهار الأحد مهمة جدا لبدء الانقاذ ويجب تحويلها الى المواطنين الذين بحاجة لها عبر المنظمات غير الحكومية وربما البلديات اذا عجزت المنظمات عن القيام بالعمليات في كل القرى والأحياء. المهمة صعبة لكنها غير مستحيلة، وكلها بسبب غياب الثقة بين القطاع العام والمواطنين. عندما يخشى المواطن أن يسرق المسؤولون المساعدات الحياتية المقدمة له، نكون في أقصى درجات الانهيار وربما الانحطاط الذي لا نقرأ عنه حتى في الروايات والقصص المأساوية الحديثة والقديمة.
مع الحكم والحكومة الجديدين، لا بد من بناء لبنان العصري المبني على الشفافية والمحاسبة والمداورة في المسؤوليات حيث لا يمكن لأي شخص في السياسة أو الادارة العامة أو رئاسة الجمعيات أن يبقى في مركزه أكثر من 10 سنوات متتالية. هنالك نقابات في لبنان منعت التجديد منذ عقود وهنالك أخرى تسمح بالتجديد مرة واحدة، وبالتالي هذا الاجراء ليس غريبا عن بعض الواعين في المجتمع المدني اللبناني. من أهم القوانين التي يجب أن يتم وضعها هي فصل النيابة عن الوزارة التي هي أساس الديموقراطيات، وهنالك أحزاب قامت بها طوعا ولا بد من جعلها الزامية في كل الظروف اذ أن العديد من التجارب السابقة لا تدعو الى وضع الثقة في السياسيين. السياسة خدمة للناس وليس العكس كما يحصل عندنا.
يجب أن يبنى لبنان الجديد على المبادئ والقوانين المدنية وليس العلمانية بالضرورة، اذ لا مستقبل للبنان ضمن القوانين والممارسات الطائفية والمذهبية. أولادنا يهاجرون ولبنان يفقر والمستفيدون من الانقسمات يزدهرون. بناء لبنان الجديد يرتكز على وجود أشخاص في المسؤوليات يتمتعون بالكفاءة والخبرة وبالنظافة المادية والفكرية وغير ملوثين في الممارسات السوداء في القطاع العام أو الخاص. هؤلاء كثيرون لحسن الحظ في لبنان أو الخارج. مع هذا الفريق الجديد من نساء ورجال، لا بد من بناء المستقبل على الخطوات التالية:
أولا: القيام بالتدقيق الجنائي في المؤسسات العامة الرئيسية حيث الشبهات كبيرة في سوء الاداء والفساد، ومنها مصرف لبنان ومجلس الانماء والاعمار وشركة الكهرباء ومجلسي المهجرين والجنوب وغيرهم. أهمية هذا التدقيق ليس فقط معرفة ما جرى في الماضي والمحاسبة على أساسها، وانما خاصة ردع من يفكر بالسرقة والهدر وسوء الادارة مستقبلا. هذه المرحلة الانتقالية خطرة لكنها ضرورية لبناء لبنان الجديد. لا بد من العودة بهذا التدقيق الى 1980 أي الى فترة سابقة مهمة جدا قبل الطائف يجب التعلم منها على الأصعدة النقدية والمالية والاقتصادية والادارية حتى لا نقول السياسية.
ثانيا: في القضاء لا بد من قبول التشكيلات التي يضعها مجلس القضاء الأعلى ولا بد للاستقلالية من أن تتم وتحترم. لن تأتي الاستثمارات الى دولة لا تحترم قضاءها. القضاء في أوروبا وأميركا أقوى من السياسيين. لأننا نحاول التشبه بالدول المتقدمة، لا بد وأن نضع القوانين المشابهة التي تحترم المسؤوليات والحريات وحقوق الانسان والمساواة بين الأجناس والأعراق.
ثالثا: الاستمرار في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لأنها بداية الخلاص والمساعدات، ولأن المجالات الأخرى عملياً غير متوافرة. ضرورة المفاوضات بأفكار ومواقف وأهداف مشتركة يتفق عليها داخليا قبل التفاوض كي تكون كلمة لبنان واحدة وقوية. الجدية مطلوبة لأن التحديات كبيرة والفرص تضيق مع الوقت والبطالة تكبر والفقر يزداد.
رابعا: في السياسة النقدية واذا عجزنا عن الانتقال الى سعر الصرف الحر، لا بد من تحديد سعر صرف واقعي جديد تجاه الدولار يستطيع مصرف لبنان الدفاع عنه. المطلوب من مصرف لبنان المزيد من الشفافية الدورية تماما كما يحصل مع المصرفين المركزيين الأميركي والأوروبي. ضبابية عمل مصرف لبنان المزمنة تضعف الثقة به وهذا في غاية السوء والخطورة.
خامسا: في المواضيع المالية، التقشف بهدوء هو المطلوب لأن خنق البلد مضر جدا في ظروفنا الصعبة. لذا الادارة المالية الرشيدة أي المنطقية والعقلانية هي المطلوبة. بناء الادارة النزيهة الحديثة التي تخدم المواطن هي أساس لبنان الجديد وقد عرفناها في الستينات حيث النوعية والكفاءة كانت الأساس. فلنعود اليها لأن لا مستقبل لنا اذا ما استمرينا على ما نحن عليه.
اذا استفدنا في لبنان هذه المرة من تجاربنا التعيسة لبناء المستقبل، نكون جديين وواقعيين ونخفف الخسائر آملين في أرباح مستقبلية. من الصعب الطلب من اللبنانيين اعادة البناء ضمن الضبابية الحالية، ولا بد من نقلة نوعية على صعيدي السياسة والادارة والمحاسبة. دولة من دون ادارة جيدة تفشل، تماما كما هو حال أي شركة في العالم. فلنبدأ في وضع الادارة النظيفة الجيدة الفاعلة الوطنية لادارة لبنان الجديد.