اللبنانيون جميعا، لم يستوعبوا حتى الآن، وبالقدر الكافي، مأساة الرابع من آب التي حلّت ببيروت المنكوبة والمغلوب على أمرها، من خلال ذلك «الزلزال النووي» المُدّمر الذي أصابها بالأرواح والأنفس، وبالبناء والعمران، فدمّر بيوتها ومؤسساتها التجارية والسياحية ومستشفياتها ومؤسساتها التعليمية، وتركها خرابا طاولها بمآسيه وتشريده لما يقارب الثلاثماية ألف مواطن، بعد أن أمعن في جموعهم قتلا فيه الكثير من صفات الجرم المقصود، وها هي مصيبة أولئك المواطنين البيروتيين تتراكم وتتزاحم مع جملة المصائب التي تطاول اللبنانيين جميعا في أسوأ أوضاع إقتصادية وتدهور مالي عرفته البلاد في تاريخها القديم والحديث مخلّفة في جموعه المنكوبة حالات غير مسبوقة في هولها وعمق أثرها ومطاولتها اللبنانيين في لقمة عيشهم واستمرارية أعمالهم واشغالهم ووظائفهم في مؤسسات أقفلت أو هي في طريق الإقفال، دون أن ننسى ذلك الوباء الذي طاول العالم بأسره، بما فيه لبنان الذي تكدست فوق رؤوس أبنائه، جموع من المصائب.
ذلك الإنفجار المزلزل أصاب البيروتيين، وخاصة منهم من طاولتهم أضراره وآثاره المدمّرة، بجملة من النتائج المعنوية والتي أضيفت إلى مصائبهم المادية والتي خلّفت لديهم، مزيجا من الغضب، وكثيرا من أوضاع الذهول، فهم لم يستوعبوا تماما حتى الآن، كيف تطاولهم مأساة بهذا الشمول وهذا الحجم وهذا الخراب الشامل، دون أن تلاقي هذه المأساة التي طاولتهم تحسسّاً، وإهتزازا ملموسا في مواقف المسؤولين لديهم. وبعد مرور ما يزيد على شهرين من حصول الماساة، تحرّكت طلائع المنكوبين البيروتيين، في احتجاجات نزلت إلى الساحات والشوارع، وقطعت بعض الطرقات، وألهبت الأجواء بصياح الألم المنبعث من بعض أولئك المنكوبين بفقد أبنائهم وأعزّائهم، وبأوضاعهم الحياتية الصعبة التي وضعتهم وهم على أبواب الشتاء المقبل دون أن تكون منازلهم قد عادت إليهم صالحة للسكن بعد أن دمّر الزلزال النووي، بناءها وحيطانها وأثاثها وبعضا من سقوفها التي باتت محكومة برحمة منتظرة من الله عز وجل، واندفاعة مرجوة من المؤسسات الزاخرة بمشاعر التعاضد الإجتماعي والإنساني والمصممة على بذل كل ما تمكنها به إمكاناتها المتواضعة وغير المتناسبة مع حجم المأساة وأضرارها، والسعي المضني في هذا الإتجاه، دون كلل ولا ملل. وكان ذلك كل ما طاول بيروت المنكوبة والبيروتيين المصابين والمشردين من عون سدّوا به بعض الخلل الرّهيب في احتياجاتهم التي أعقبت الزلزال المريع، وما زالت آثاره الموجعة، تفعل فعلها المؤلم في المجتمع اللبناني عموما، والبيروتي خصوصا وفي طليعته، من طاولتهم النكبة بكل وجوهها وأبعادها.
أمّا المسؤولون، أمّا الدولة العليّة، أمّا الرئاسات المبجلة، أمّا النواب الكرام، أمّا الزعامات الموروثة، أما كلّ أولئك الذي نهبوا وسرقوا المال العام وتركوا البلاد أمام مهاوي الإفلاس والخراب والزوال، كل هؤلاء، لم نسمع لهم صوتا إلاّ بعض الاقوال الفارغة من مضمون واضح ومن أي مفعول إيجابي وهي قد قيلت لمجرّد رفع العتب واتقاء نتائج اللوم الشعبي والوطني، وكلها تدور في إطار الواجبات «الشكلية» التي تُركت لإدارات غائبة عن السمع، وقضاء تحرّك بعضه، وأكثره بقي في ساحات الإنكفاء، ومؤسسات عائدة للدولة وللدوائر البلدية، وبعضها استحدث في سابق الأيام لأدوار النجدة والإغاثة والحماية الإجتماعية والحياتية… كلّها ما زالت تحرّك شفاهها دون قلوبها وضمائرها وجيوبها، وتضحّي بالغالي والنفيس لحماية أموالٍ أودعتها في مصارف الخارج بعد اتخاذ ما أمكنها من الإحتياطات الواقية التي تجعلها بعيدة عن أن تطاولها المطالب والدعاوى والمسؤوليات العقابية مختلفة الأنواع والأحجام.
وكان غريبا أن نجد مثل هذا التحرك الإيجابي المطلوب، لدى المسؤولين الفرنسيين، وبالتحديد لدى رئيس الجمهورية الفرنسي، الذي زار لبنان مرتين والتقى بمعظم المرتكبين واستحصل منهم على التزامات وتعهدات بإصلاح خزائن البلاد وإزالة الخروق التي اعتمدها أولو الشأن لدينا للتمكن من شفط المال العام بالعدل والتساوي ما بين كبار المسؤولين بكل جهاتهم وفئاتهم وطوائفهم ومذاهبهم، فما كان منهم يعد طول تدارس واستدراك إلاّ أن انقلبوا على المبادرة الفرنسية، دون أن يعني لهم شيئا، ما طاولهم من شتائم وانتقادات وتقريع من الرئيس الفرنسي، ومن فئات واسعة من الشعب اللبناني المقهور، ودون أن يلتفتوا إلى هرب الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة السفير أديب من هول ما طاول البلاد من استمرارية الفظائع المرتكبة، ودون أن يكترثوا لغرق البلد القاتل في مهاوي الخراب والدمار، والسمعة العفنة المتدحرجة إلى أعماق الهاوية الوطنية والأخلاقية.
فإلى المنتفضين حديثا من أهل بيروت المصابة، كل التحية والدعم المطلق من أخوتهم في الوطن، لبداية تحركاتهم الغاضبة وكل التأييد لها بكل تطوراتها ومعالجاتها التي تحاول أن تبلسم الجروح وتعيد الحق والعدل إلى نصابه.