قامت الثورة الاسلامية في ايران في عام 1979. وبعد ان استتب لها الأمر كان أول شعار رفعته هو تصدير الثورة. وكان الرد على الشعار عراقياً، اذ خاض نظام الرئيس السابق صدام حسين حرباً ضد ايران أودت بحياة أكثر من مليون عراقي وايراني.. انتهت الحرب ولكن شعار تصدير الثورة لم ينتهِ.
مع ذلك، فهم العالم العربي الشعار خطأ. كان الاعتقاد هو ان ايران تقصد تشجيع علماء الدين في الدول العربية على الاقتداء بالعلماء الإيرانيين في التحريض ضد القيادات والأنظمة السياسية في دولهم. وحدها حركة الاخوان المسلمين تماهت مع هذا الشعار وتبنّته. وفي الواقع فان مضمونه يقع في أساس فلسفتها وبرنامجها السياسي. غير ان هذه الحركة لم تكن تتمتع بالصدقية وبالشعبية اللتين كان يتمتع بهما علماء الدين في ايران خاصة في عهد الإمام الخميني. وهكذا تحول شعار تصدير الثورة من التعميم الى التخصيص. اي من تحريض كل العلماء المسلمين الى تحريض علماء الشيعة حكماً، وليس حصراً، ضد القادة والأنظمة السياسية العربية. مرّ وقت طويل من غير ان تلقى هذه الدعوة استجابة عملية حتى في الدائرة الاسلامية الشيعية. فكانت الخطوة الثانية باعتماد مبدأ ولاية الفقيه. وبموجب هذا المبدأ يكون الولاء ( ولاء العلماء والعامة من مقلديهم) للفقيه وحده باعتباره قائماً بأعمال الامام الغائب الى أن يعود. والفقيه المرجع كان آية الله الخميني، والآن هو آية الله الخامنئي.
لم تكن الاستجابة لهذه الخطوة الثانية شاملة أيضاً. كانت محدودة. عارضها في لبنان علماء كبار، أمثال آية الله محمد حسين فضل الله الذي تجرأ خصومه على مقاطعته وحتى على تكفيره.. والإمام محمد مهدي شمس الدين الذي قُصف منزله وهُجّر منه. ولكن أيدها حزب الله بزعامة السيد حسن نصر الله. وأعلن عن ذلك هو نفسه أكثر من مرة في مهرجانات عامة. ثم التحق به علماء آخرون. اما في العراق فقد أيدها علماء حزب الدعوة، وتجاهلها بعض كبار علماء النجف الأشرف، ولا يزالون.
ثم كانت الخطوة الثالثة بتقديم الدعم المعنوي الديني والسياسي والاعلامي للملتزمين بمبدأ ولاية الفقيه عبر شبكات التواصل الاجتماعي ومحطات التلفزة والصحف والمجلات اليومية والأسبوعية والفصلية، وكذلك الدعم الديني من خلال منابر المساجد والحسينيات والمهرجانات الموسمية، اضافة الى الدعم المادي السخي، وحتى العسكري الجريء الذي أغدق على الحركات التي استجابت لمتطلبات هذا الالتزام، حماية لها مما يمكن أن تتعرض له من ردود فعل.
ذلك ان الالتزام بمبدأ ولاية الفقيه يرتب التزاماً بسياسة الولي الفقيه. الأمر الذي فهم بأنه يستهدف استدراج الشيعة العرب الى الولاء لإيران سياسياً من خلال الولاء للفقيه دينياً.. ومن ثم ترجمة هذا الولاء بالاستجابة لنداء تصدير الثورة.
استخفّ العرب، سنة وشيعة، بهذا الأمر، وقللوا من أهميته، حتى أدركوا متأخرين أن أصحاب مبدأ تصدير الثورة جادّون في شعارهم وأنهم يملكون طاقة من الصبر كافية لحفر خندق عميق في صخرة الصف العربي بالإبرة التي يحيكون بها السجاد.. وبالصبر الذي تحتاج اليه عملية الحياكة.
وهكذا، وعلى حين غفلة أو تغافل عربي – انفجرت سلسلة التوترات الداخلية، التي عرفتها عدة دول عربية، من العراق الى سوريا، ومن البحرين الى اليمن، ومن الكويت الى السعودية. وحاولت كل دولة معالجة الأمر وكأنه مرض موضعي وآني. ولم تدرك المجموعة العربية الا متأخرة ان المرض عام، وانه منتشر في كل أعضاء الجسم، وان المعالجة الموضوعية غير ذات جدوى.
ما كان يمكن تبرير أو تمرير مبدأ تصدير الثورة الإيرانية من دون رفع راية المظلومية. وهو ما حدث أولاً في البحرين، ثم في اليمن، وحتى في شرق السعودية. عزز ذلك التعثر المتمادي في ادارة المجتمعات المتعددة في العالم العربي بصورة عادلة وبناءة، فأصبح بالإمكان تصوير سلوك المستجيبين لمبدأ تصدير الثورة، وكأنه رد فعل على أوضاع داخلية سيئة، غير انسانية وغير عادلة، وليس استجابة لإيحاء او لتحريض خارجي.
تتمثل المرحلة الرابعة التي وصلت اليها عملية تصدير الثورة، في التدخل العلني والمباشر لصاحبة الثورة وصاحبة شعار التصدير. وهو ما نشهده تحديداً في اليمن وفي سوريا. وما شهدناه قبل ذلك في لبنان والعراق والبحرين.
من هنا لو لم تأخذ الدول العربية وخاصة المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة المبادرة عاصفة الحزم- لتحوّل اليمن الى رأس جسر إيراني الى العمق العربي الجنوبي في الخليج والسعودية، مما يسهل على إيران عملية الالتفاف الاستراتيجي على العالم العربي من الجنوب والشمال (عبر سوريا ولبنان).
لم تكن الثورة الاسلامية سجادة إيرانية جاهزة للتصدير. صدّرت إيران الخيطان العقائدية والإبر السياسية اللازمة لحياكتها. وصدّرت معها الخبراء الفنيين حتى تأتي السجادة متوافقة ومنسجمة في الشكل واللون مع سجادة الثورة الاسلامية في ايران.
ولكن الخيطان ستبقى خيطاناً، والإبر إبراً، وسيبقى الخبراء والفنيون عاطلين عن العمل ما لم يتوافر الحياكون للقيام بالمهمة. من هنا أهمية العمل العربي المشترك لإعادة الاعتبار الى «الجامع القومي» بما يتجاوز الانتماءات المذهبية. وهذا العمل الهادف يحتاج الى قرار. واي قرار يحتاج الى مراعاة أمرين أساسيين: يتعلق الأمر الأول بالمبدأ الأخلاقي. ويتعلق الأمر الثاني بمبدأ المساومة.
ان الأخلاقية من غير مساومة طوباوية فارغة. والمساومة من دون أخلاق ضلال مبين. والجمع بين المبدأين الأخلاقي والمساومة هو أعلى مراتب العمل السياسي. وفي الحسابات الأخيرة، فان السياسة كما قال الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، هي فنّ تحويل المستحيل الى ممكن. وهذا فن لا يجيده الا كل ذي حظ عظيم.