IMLebanon

المكشوف والمكنون في خطاب السيّد

 

مهّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في مقاربته لمسألة القدس بالإشارة إلى الخطورة التي يتضمّنها قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب باعتبار القدس عاصمة لدولة المستعمرين الإسرائيليين، لنتصوّر هذا العالم الذي يصرّ على أن تكون المدينة التي تحتوي على رموز حضارية تخصّ الإنسانية جمعاء، عاصمة دولة استعمارية طردت أهل فلسطين وجعلت مكانهم مستوطنين غرباء على أساس التمييز بحسب المعتقد الديني. بتعبير آخر، أنّ هذه الدولة الاستعمارية تدّعي أنّ الدين يُجيز إخراج الناس من بيوتهم من أجل إسكان أتباع هذا الدين مكانهم.

لذا حذّر السيد نصرالله الفلسطينيين وشعوب المنطقة، من أنّ الأميركيّين إنّما يعدّون لجريمة مماثلة لجريمة المستعمرين البريطانيين الذين أنشأوا دولة إسرائيل، بدءاً بإصدار وعد بلفور سنة 1917، كمثل القرار الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي.

أشار السيد حسن نصرالله في سياق استعراضه للمخاطر التي يبطنها قرار الرئيس أميركي، فقال:

ـ إنّ الولايات المتحدة الأميركية هي إسرائيل، كونها لا تحترم ولا تقيم وزناً لأراء حلفائها في أوروبا، والمتعاونين معها في البلدان العربية والإسلامية المنضوين في «حلف آل سعود» ضدّ الإرهاب، وفي جامعة الدول العربية وفي المؤتمر الإسلامي. بالإضافة إلى أنّها لا تلتزم بالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن والأمم المتحدة، ولا بالقوانين الدولية. كم من الحروب خاضتها الولايات المتحدة الأميركية بحجّة تطبيق هذه القوانين وتلك القرارات؟ نحن إذاً حيال كيان إسرائيلي أميركي واحد يسلك نهجاً متهوّراً لا يهدّد الفلسطينيين وحسب، وإنما يشكّل خطراً كبيراً على العالم.ـ من البديهي أنّ القرار الأميركي يمنح الإٍسرائيليين تغطية لكي يتصرّفوا في مدينة القدس وفقاً لسياسة التمييز العنصري التي يتبعونها، ممّا يعني أنّهم سيهجّرون سكّانها الفلسطينيين تحت ذرائع متعددة، كمثل التنظيم المدني، الضرائب، المتطلبات الأمنيّة إلخ… بالإضافة إلى أنّهم سيستخدمون هذه التغطية في توسيع مساحة المدينة، وكلّ ما يُضمّ إليها يصير جزءاً من العاصمة.

وفي باب المخاطر أيضاً، نعتَ الأمين العام لحزب الله قرار الرئيس الأميركي بـ«العمل العدواني» على مئات الملايين من الناس في هذا العالم، من جانب ثنائي أميركي ـ إسرائيلي، لا يحترم القوانين ولا يهمّه الرأي العام الدولي. إنّها شريعة الغاب التي تفرضها إرادة الرجل الذي يسكن في البيت الأبيض!

من الطبيعي أن نفكّر هنا بالذين قدّموا لبنان في 2005 و2006 على طبق من القوانين الدولية، والفصل السابع، والمحكمة الدولية إلخ، إلى الولايات المتحدة الأميركية، طبعاً ليس لأنهم يستحقون الشكر! نفكّر أيضاً بوليّ العهد السعودي الشاب، الذي يبدو أنّه مرتبط بعلاقات وثيقة مع الرئيس الأميركي صاحب قرار مدينة القدس، ومع عائلته!

مصلحة إسرائيل هي الأولى، فوق القانون! الغريب أنّ الأمين العام لحزب الله يتوجّه إلى جامعة الدول العربية التي يجرّها وليّ العهد السعودي من أذنها، ويتوجّه أيضاً إلى المؤتمر الإسلامي، مطالباً بأن تتحمّل هاتين المنظّمتين مسؤولياتهما. أعتقد أنّه يعرف أنّ مهمّتهما تقتصر على خدمة الولايات المتحدة الأميركية فقط… ونحن نعرف أيضاً.

وقال السيد حسن نصرالله إنّ القرار الأميركي يحتاج إلى دراسة من قِبل لجنة من الخبراء، لأنّ لهذا القرار تداعيات أوسع من أن يشملها خطاب، الغاية منه تسليط الضوء على مسألة هامّة أكثر من إظهار جميع تفاصيلها. هذا يعني أنّ الأمين العام لم يقل كلّ شيء، إمّا لأنّ التحليل لم يكتمل بعد، وإمّا لأسباب أخرى. وأشار السيد إلى بعض المخاطر، وإلى احتمالية وجود مخاطر أخرى لم يتمّ التعرّف عليها بعد. تناول المواقف التي يفترض بالمعنيّين اتخاذها… في الحدّ الأدنى! وفي الحدّ الأدنى ينصح السيد حسن نصرالله بالتعبير عن الاحتجاج والشجب بجميع الوسائل والأساليب المتوفّرة بشكل فردي أو جمعي. كما أنّه طالب «الدول العربية» بالمبادرة إلى العمل الدبلوماسي، لم يميّز هنا الدول الخليجية المزدهرة المشعّة من الدول المدمَّرة أو شبه المدمَّرة. أعتقد، وهذا رأيي الشخصي، أنّ السيد نصرالله كان «ديبلوماسياً» بامتياز في هذه النقطة، كأنّه قال تفضّلوا يا أصحاب السموّ والجلالة، والفخامة، أنتم الذين تقيمون علاقات مع دولة المستعمرين علانية وفي السر، فوق الطاولة أو تحتها، افعلوا شيئاً ألا تهمّكم القدس، ألا يفرض عليكم «الدين» مقاطعة دولة المستعمرين وإقفال سفاراتكم ومكاتبكم… غريب كيف تفهمون الدين؟

مجمل القول، إنّ الأمين العام لحزب الله يعتبر أنّ العربدة الأميركية الإسرائيلية في موضوع مدينة القدس بوجه خاص، يستوجب منكم يا حكّام العرب موقفاً دفاعاً عن ثقافتنا، تاريخاً وحضارة ومعتقداً. هذا الموقف مطلوب منكم أولاً، لأنّ الأميركيين والإسرائيليين أصدقاء لكم، وجامعة دولكم العربية تمتثل لإرادتكم في نعت الذين يخالفونكم بالإرهاب والارتداد! تفضّلوا وكونوا على ثقة من أنّنا سندعم جميع المواقف التي تصبّ في صالح التحرير ومناهضة المستعمرين! دول النفط ضدّ الاستعمار؟ هل يُعقل هذا؟

ولكن أضعف الإيمان من وجهة نظر السيد، هو أن يثبت المتعاونون أنّ الرئيس الأميركي أخطأ، فقراره سوف يضرّ بمصلحة إسرائيل… كيف؟ نحن حكّام الخليج والأردن ومصر، والسلطتان الفلسطينيتان، والمغرب والسودان، مضطرّون إلى إظهار حرصنا على مدينة القدس، وعلى المقدّسات «المسيحية والإسلامية كما كان يقول المرحوم ياسر عرفات»، وإلا فقدنا مصداقيتنا «العربية» في مواجهة «الفرس» و«الإسلامية السنّية» في مواجهة «الهلال الشيعي». لذا عذراً يا سيادة الرئيس الأميركي، سنقاطع إسرائيل! فهل تستطيعون أيها المطبّعون والمتعاونون أن تقاطعوا إسرائيل؟ هل تستطيعون أن تسمّوا السياسات الإسرائيلية بأسمائها، إرهاب الدولة، التمييز العنصري… الاستعمار؟

وماذا عن عملية السلام؟ هل ستكملون إلى ما لا نهاية، بالرغم من أنّ الإسرائيليين والأميركيين أعلنوا بوضوح أنّ وضع مدينة القدس صار محسوماً، غير قابل للنقاش؟ أصدقاؤكم أيها الحكّام يضعونكم أمام تحدّ كبير! خذوا قراراً في اجتماع للقمّة في جامعة دولكم العربية أو في مؤتمركم الإسلامي، بأنّ مدينة القدس هي عاصمة فلسطين الأبدية، وبالتالي فإنّ وضعها غير قابل للنقاش !

يخلـُص الأمين العام لحزب الله في نهاية الخطاب إلى وضع الأمور في نصابها، تاركا المتلقّي وحيداً يتفكّر. هل تكفي مواقف «أضعف الإيمان» التي دعا إليها، ومواقف «الحدّ الأدنى» التي من المفروض أن يتّخذها المطبّعون بجعل الرئيس الأميركي يعيد النظر بالقرار الظالم الجائر الذي يقضي بمحو تاريخ أمّة بأكملها في عاصمتها مدينة القدس؟ خيّل إليّ أنّه يقول هذا لن يكفي. لو كانت سورية والعراق واليمن ولبنان والجزائر وتونس بخير، لما تجرّأ الرئيس الأميركي على إعلان قراره في مسألة مدينة القدس. إذاً أوقفوا حروبكم على هذه البلدان، وتعالوا نبحث عن مخارج سياسيّة للصراع !

صراحة، هنا توقّف دماغي عن العمل، لأنّي على يقين من أنّ الحروب التي تتعرّض لها البلدان المذكورة ليس لها مخارج سياسية، فهي لا تنطلق من أرضية اجتماعية مطلبيّة، إنّها حرب مرتزقة، غايتها القتل والتشريد والتقسيم والتدمير! لا أوافق على اعتبارها «ثورة» أو حرباً أهلية داخلية! فوراءها أميركا وإسرائيل ودول خليجية لم تنأَ بنفسها عن الداخل السوريّ، وإنّما حرّضت الناس على الانضمام إلى حرب أميركية إسرائيلية ضدّ بلادهم وضدّ جيشهم!

لم ننأَ في لبنان بنفسنا عن مسألة مدينة القدس، فهي أيضاً كمثل المسألة السورية، عادلة وتمسّ ثقافتنا ووجودنا.

وأخيراً، وهنا يكمن بيت القصيد… لا تكرهوا شيئاً لعلّه خير لكم، نحو أمّة تعوّدنا أن نقلب الأخطار لصالحنا فيها.

هكذا قدّم أمين عام حزب الله الوضع في خطاب عن الأخطار المحدقة وعن مواقف «أضعف الإيمان» و«الحدّ الأدنى»! هل تكفي هذه المواقف لدرء الخطر، وهل ما سمعناه الليلة هو كلّ الخطاب؟؟ أم أنّ علينا أن ننتظر دراسة موسّعة ومعمّقة للتداعيات التي قد تترتّب على قرار الرئيس الأميركي؟!