زيارة الرئيس ميشال سليمان إلى طرابلس في نهاية الأسبوع المنصرم، أطلقت في عاصمة الشمال جملة من الرموز التي انقلب معظمها إلى جملة من الحقائق انطلقت من هناك بسرعة البرق، إلى كل الأجواء اللبنانية، محولة كثيراً من عوامل الظلمة والإكفهرار إلى معالم مستجدة أنارتها وفككت الكثير من طلاسمها وسيئاتها وأخطارها. بحد ذاتها كانت الزيارة رمزاً كبيراً معبراً عن أسس راسخة لوحدة هذا البلد أرضا وشعبا ومؤسسات، وعن إرادة العيش الموحد، فضلا عن ملاحق رمزية متعددة، من الكلمات التي تم تبادلها بشكل خاص ما بين سماحة مفتي طرابلس وفخامة الرئيس سليمان، وتمثلت بما يلي:
– أكد فخامة الرئيس سليمان على وجوب انتخاب رئيس جديد للبلاد، كما أكد أنه من العار أن يهل عيد الإستقلال المقبل والبلاد بدون رأس يعطيها الشكل الوطني والميثاقي المتكامل ويعيدها إلى مسيرة الدول الحقيقية والتي لا يسلم لها جسم ولا روح ولا وجود، إلا برأس يحكم ويقود، وقد ربط فخامته وجوبية الإنتخاب بحلول عيد الإستقلال، وهو مناسبة وطنية بامتياز ترمز إلى وجود الكيان اللبناني وقيامه على أسس ميثاقية معروفة، وقد تطورت منذ نشأتها حتى حدود التصقت بالوجود اللبناني نفسه إلى درجة، يكون لبنان بها وباستمراريتها، أو لا يكون ويصبح كياناً بلا لون ولا طعم ولا رائحة، تائهاً في فضاءات المجهول.
– تكلم سماحة المفتي الشعار باسمه الشخصي وإسم طرابلس والشمال وكاد أن يتكلم باسم لبنان كله، مع زيارة الرئيس سليمان على أنه رئيس للوطن مستمر في رئاسته، متجاهلاً صفة الرئيس السابق التي تضاف عادة إلى إسم الرئيس سليمان الذي انتهى عهده، وكأنه قد اعتبره، كان وما يزال رئيس البلاد طالما أن المجلس النيابي لم ينتخب سواه، حتى الآن، وإلى أمد لا أفق له ولا حدود، معبرا بذلك عن نفسه وعن شعور ورغبة الكثيرين من أبناء هذا الوطن، وكأنما سماحته يصحح بذلك خطأ دستورياً لم يلحظ مثل هذه الحالة التي لم تعالج وضعية حصول فراغ رئاسي، يشل البلاد ويهدد أسسها وميثاقيتها وسلامة ووحدة أرضها وشعبها، ويعرّضها في كل الحالات، إلى أشد وأدهى الأخطار وأفدح المهاوي والمزالق، نستطرد فنقول: إنه الحال الذي نعيشه حالياً، في وقت يكاد فيه الدستور، أن يصبح كتاباً مطبوعاً بلا مضمون ولا حيوية ولا روح، ويتم التعامل معه على أنه مجرد وجهة نظر، يتم تجاوزها وتحويرها وتشويهها واختلاق البدائل لها، في وقت برزت فيه حياة سياسية من نوع جديد مستحدث إلى حدود الإستغراب الفاقع، وإلى تجاوز كامل لمبادئ المسيرة الديمقراطية التي يتبناها الدستور وتمسكت بها ثقافة اللبنانيين وقناعاتهم وعقائدياتهم المختلفة، وقد أبرز إلى الوجود الإلغاءات والتحويرات «والقواعد الديمقراطية» المختلقة في هذه الأيام العابقة بالظلمة والغرائب والعجائب ممثلة بمبدأ: أنا أو لا أحد، مشفوعاً بمبدأ: ومن بعدي الطوفان وهما مبدءان خطيران رهيبان، يدفعان بالوطن والمواطنين إلى أخطر المسالك والمهاوي والتحسبات السلبية.
– تحدث الرئيس سليمان عن طرابلس في هذه الأيام، وقد اعتبر أنها وهي عاصمة لبنان الثانية، قد أضحت في رأيه، بما أثبتته من روح وطنية أصيلة، وتمسك بهذا الوطن ووحدة أرضه وشعبه ومؤسساته، تكاد أن تصبح عاصمة لبنان الأولى. ولئن كانت طرابلس تجيء في واقع الأمر في مرتبة متقدمة ما بين المدن اللبنانية والعربية، فهي ومنذ تاريخها البعيد، مدينة العلم والعلماء، ومدينة الإنفتاح الرافضة لكل معالم وآثار التعصب والتباغض والتطرف، وهي مدينة أطلقت إلى الوجود جملة من كرام المواطنين فقهاء وفضلاً وأدباء ومخترعين وفنانين وسياسيين محنكين، فلونوا عاصمة لبنان الثانية بكل معالم العراقة والحضارة والرقي التي تتشرف بها كل مدينة في أية دولة وأي وطن. من هنا كانت انتفاضة الطرابلسيين ضد الإتهامات المزورة التي أطلقت بصورة مفتعلة وظالمة، على هذه المدينة الرافضة لتسمية قندهار التي أطلقها المغرضون عليها، متناولين ماضيها وحاضرها وواقعها بكثير من الإتهامات الظلامية المفترية التي سريعا ما عادت إلى نحر مطلقيها.
– تطرق الرئيس سليمان إلى دور رئيس الحكومة تمام سلام وإلى التعاون القائم ما بينه وبين حكومته في إدارة البلاد مع حرص دائم من قبله على حفظ مركز الرئاسة الأولى وإبقائه حاضراً وحياً ومستمراً، وهو دور بالغ الأهمية، خاصة في هذه الظروف الصعبة التي يجتازها الوطن، الأمر الذي يتطلب وعياً وحنكة وصبرا أيوبياً لا يُحد، في إدارة البلاد وهي على واقعها الحالي الممزق والمشرذم من قبل رئيس ليس رئيسا أصيلاً للجمهورية وليس مارونياً ليكون أبن بيئته التي يتمسك الموارنة بصفاتها وتوازناتها وميثاقية وجودها، ويحصل ذلك وسط أشراك ومطبات تنصب له وللبلاد ووجودها ومستقبلها، من هنا ليست مستغربة عليه تلك التصريحات المتتالية التي لا ينفك يطلقها، بمناسبة وبلا مناسبة، داعياً فيها إلى وجوبية انتخاب رئيس جديد للبلاد، يضع حداً لهذه الهرطقة السياسية والدستورية القائمة والتمثيليات الهستيرية التي تلعب على خشبة المسرح اللبناني العام، غير مهتمة للغضب الشعبي العارم، المتنامي في غياب سعي جدي لإنقاذ البلاد من براثن الوحوش الكاسرة التي تكاد أن تطبق على رقاب الوطن والمواطنين، من جميع الأنحاء وبكل أنواع الأسلحة العسكرية والسياسية التآمرية. وقد سجل للرئيس سلام أنه منذ انطلاقة هذه الوزارة، وهو يفتتح جلسات مجلس الوزراء جميعاً بدعوة ملحة لإجراء الإنتخابات لرئيس جمهورية جديد، يعيد للبلاد وجودها وقيادتها وميثاقيتها.
– أكد الرئيس سليمان على دور الدولة في رعاية وقيادة وحماية الوطن وعلى حصر الأمن الوطني بالدولة وجيشها وقوى أمنها الداخلي، وفي ذلك تأكيد على تلاقي المواقف الوطنية الأصيلة الداعية إلى سحب السلاح من كل الأماكن والمناطق والمربعات الأمنية حيثما كان وكائناً ما كانت.
ولا شك في أن هذا الموقف قد جاء بمثابة رد مسبق على بعض الآراء المؤسفة، الداعية إلى إطلاق العنان للسلاح غير الشرعي، يقرر ما يشاء ويفعل ما يشاء ولا علاقة له باستئذان الدولة بكافة مؤسساتها والشعب بجميع ممثليه، بالقيام بأي عمل يراه ويقره لنفسه ولسلاحه ولاجتهاداته الفئوية، حتى ولو أدى ذلك إلى خراب لبنان وزواله.
صوت الرئيس سليمان الذي انطلق من طرابلس قد وصل إليها وإلى أبنائها وإلى كل لبنان صافياً وصادقاً ومؤثراً، وفي ذلك بعض الدلالات المؤملة بمستقبل أصح وأسلم وأفضل. وواقع الحال أن مواقفه وتحركه السياسي الناشط واستمراره في اتخاذ المواقف الشجاعة والمقدامة والتي يصب نتاجها الايجابي في خانة الوجود اللبناني والوحدة الوطنية وقد عبأ بعضا من مساحات الفراغ الرئاسي في غمرة الفراغات الوطنية والدستورية القائمة، والعابثة بالأمن الكياني والوجدوي إلى حدّ جعل من غبطة البطريرك في خطابه الأخير، يضعها في خانة أقرب ما تكون إلى الخيانة العظمى.