ليست المسألة تمديد ولاية قائد الجيش العماد جوزف عون او تأخير تسريحه، فإذا كان ترشيح الرجل لرئاسة الجمهورية جدّياً لدى مؤيّديه فيمكن الاستمرار في دعم هذا الترشيح حتى ولو خرج من قيادة الجيش عند انتهاء ولايته في العاشر من كانون الثاني المقبل. الّا انّ المسألة هي أبعد من ذلك بكثير، فـ»وراء الأكمة ما وراءها»، وقابل الايام كفيل بكشف المستور…
والواقع انّ جميع المتعاطين مع الاستحقاق العسكري انما يتعاطون، كلٌ، انطلاقاً من مصلحته السياسية، او ضرورات المعركة التي يخوضونها حول الاستحقاق الرئاسي، فلربما تكون هناك قلّة من داعميه لا تتوخّى مصلحة خاصة، وانما تجد فيه شخصية مناسبة لتولّي مقاليد رئاسة الجمهورية في ضوء تجربته التي يعتبرونها ناجحة في قيادة المؤسسة العسكرية.
الراسخون في علم الاستحقاق الرئاسي، يرون انّ زجّ اسم قائد الجيش في هذا الاستحقاق ليس كله صدق، ويرقى لدى البعض الى مرتبة استخدام ترشيحه ورقة في مواجهة الآخرين، فيما هم في الواقع لا يؤيّدون هذا الترشيح لأنّ تاريخ العلاقة بينهم وبينه لم يكن وردياً ولا ودّياً، فماذا عدا ما بدا حتى «يلتم الشامي على المغربي» الآن، الّا اذا كان في الامر «نودي عليهم» من جهات نافذة ما، فانبروا الى التأييد والتسويق في انتظار «خطوة لاحقة».
في المبدأ ودستورياً، يحق لأي كان ان يترشح لرئاسة الجمهورية، ولكن في حالة قائد الجيش لا يمكنه الترشح الاّ إذا كان مستقيلاً من منصبه قبل سنتين من موعد الاستحقاق الرئاسي، ما يعني انّ انتخابه لا يمكن ان يتمّ الاّ في حال اجراء تعديل دستوري يجيز انتخابه من دون حاجة الى استقالته المسبقة، وطبعاً فأنّ هذا التعديل يتطلّب إقراره في جلسة نيابية بنصاب أكثرية الثلثين من اعضاء المجلس النيابي، وكذلك موافقتها عليه حتى يكون ناجزاً. وفي ظلّ موازين القوى النيابية الآن ليس هناك اي فريق يملك اكثرية الثلثين، وهو الامر الذي حال ولا يزال دون انتخاب رئيس جمهورية جديد.
ولذلك، فإنّ بعض الذين يطرحون التمديد لعون في القيادة العسكرية يعتقدون انّ هذا التمديد يبقي للرجل حيوية ترشيحه الرئاسي، وبعضهم الآخر يريد من هذا الترشيح ان يصيب من الخصوم «مقتلاً سياسياً» ويتقدّم هؤلاء خصوم رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الرافض التمديد لعون جملةً وتفصيلاً على حدّ ما يعلن، وينادي باعتماد حلول، إما بتعيين قائد جديد للجيش او تولّي الضباط الأكبر رتبة وأقدمية القيادة العسكرية بالإنابة الى حين انتخاب رئيس للجمهورية الذي يعطي تقليداً الأحقية في اختيار قائد الجيش وحاكم مصرف لبنان ورئيس مجلس القضاء الاعلى مع بداية عهده، وهذا تقليد معمول به منذ الاستقلال عام 1943 ولم يلغه «اتفاق الطائف» الذي نقل السلطة التنفيذية من يد رئيس الجمهورية وأناطها بمجلس الوزراء مجتمعاً.
فخصوم باسيل يدعمون ترشيح عون، رغم إدراكهم ما يحتاجه من تعديل دستوري يجيز انتخابه، لأنّهم يعتقدون انّ ذلك يؤدي إلى تفكيك جبهة باسيل العونية. فإن قدّر لعون ان ينتخب رئيساً للجمهورية فسيؤدي ذلك في رأيهم الى تفسخ «التيار الوطني الحر» وتوزع ولاءاته بين عون وباسيل، خصوصاً انّ قائد الجيش هو عوني الهوى والمنشأ، ومن عيّنه في القيادة كان الرئيس ميشال عون خلافاً لرأي حلفائه الذي لم يكن مؤيّداً لذلك، وكان تبرير الرئيس عون لحلفائه يومها، انّه يأتي الى قيادة الجيش بضابط هو على خصومة شديدة مع «القوات اللبنانية» على خلفية «حرب الإلغاء» الشهيرة نهاية الثمانينات من القرن الماضي.
واكثر من ذلك، عندما تعتنق المعارضة مبدأ دعم ترشيح قائد الجيش ومن بوابة تقديمها اقتراح قانون بتمديد ولايته الى المجلس النيابي، انما تفعل ذلك في مواجهة ترشيح رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية الذي ترفضه بشدة تحت عنوان انّه «مرشح محور الممانعة»، وليس لأسباب شخصية كما تعلن. وكذلك في مواجهة باسيل وخياراته الرئاسية والسياسية، على رغم تقاطعها معه على دعم ترشيح الوزير السابق جهاد ازعور، الذي أُريد منه ايضاً اسقاط ترشيح فرنجية، والمفارقة هنا انّ المعارضة وباسيل يتقاطعان على معارضة رئيس تيار «المردة».
على انّ الخيارات المطروحة لمعالجة الاستحقاق العسكري باتت معروفة ولم يُتفق على اي منها بعد، وهي إما تمديد ولاية قائد الجيش باقتراح قانون نيابي او مشروع قانون حكومي، او صرف النظر عن هذين الخيارين والذهاب إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء يتمّ خلالها تعيين قائد للجيش ومجلس عسكري كامل. واذا تعذّر ذلك تعيين رئيس اركان جديد للجيش الشاغر حالياً، بحيث يتولّى مهمّات قائد الجيش بالوكالة حسب قانون الدفاع الوطني، الى حين تعيين قائد جديد، او صيرورة القيادة موقتاً الى الضابط الأكبر رتبة، الى حيث انتخاب رئيس جمهورية جديد وتأليف حكومة جديدة. ولكن التدخّلات السياسية بوجهيها الداخلي والخارجي هي التي تمنع حتى الآن من اعتماد اي من هذه الخيارات، فيما الوقت بدأ يضيق ويهدّد بحصول فراغ في قيادة الجيش، وعندها ستتمّ معالجة هذا الفراغ على الطريقة التي عولج بها الفراغ في المديرية العامة للأمن العام وفي حاكمية مصرف لبنان. وأحد المعوقات التي تمنع خيارات التمديد وغيرها، هو انّ المعنيين يرون صعوبة في اعتمادها كونهم رفضوا اعتمادها سابقاً في مصرف لبنان والأمن العام.
والآن وفيما الجميع ينتظرون ما ستؤول اليهم حرب غزة، فإنّ فريق المعارضة بكل تلاوينه، جاهر في تأييده التمديد لقائد الجيش، فبادر وفد منه الى زيارة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إثر عودته من القمة العربية ـ الاسلامية الاخيرة التي انعقدت في الرياض، طالباً ان تتخذ الحكومة الإجراءات اللازمة التي تؤدي الى هذا التمديد.
إلّا انّه وبغض النظر عن التطورات الاقليمية والوضع السائد على الجبهة الجنوبية، فإنّ مواقف الأفرقاء السياسيين، وحتى مواقف العواصم المهتمة بالاستحقاق الرئاسي لم تتبدّل بعد، فكل ما زال على مواقفه وخياراته ومناوراته، في الوقت الذي «جُمّدت» او تجمّدت كل المبادرات الخارجية العربية، والاجنبية. فلا الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان حدّد موعداً لعودته مجدداً، ولا الموفد القطري او اي موفد آخر ايضاً، وذلك بسبب عملية «طوفان الأقصى» وما تلاها ولم ينتهِ فصولاً بعد.
ولم تستجب القوى السياسية بكتلها النيابية في الايام الاولى لحرب غزة، لنصيحة قدّمها رئيس مجلس النواب نبيه بري لاغتنام الفرصة وانتخاب رئيس، لتقوم سلطة جديدة تتعامل مع التطورات الاقليمية وتداعياتها، ما ولّد انطباعاً بأنّ لبنان باستحقاقاته الداخلية قد ينتظر طويلاً، في ظلّ التوقعات باحتمال تطور الوضع في غزة وفي جنوب لبنان الى حرب اقليمية مفتوحة على كل الاحتمالات، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة الاميركية ودول اوروبية واقليمية لا تزال تستبعدها، وتحذّر من الانزلاق اليها عبر رسائل توجّهها الى المعنيين وفي كل الاتجاهات.