انتهت معركة التمديد لقائد الجيش بانتصارات وهمية ومزيّفة، وبغضّ نظر كامل من حزب الله، في يوم انكشفت فيه أوراق الأطراف السياسية، بضغط خارجي معلن
في أي مفاوضات متوقّعة لها صلة بلبنان، واستطراداً تفعيل القرار 1701، هناك موقعان لهما مركزيتهما: رئيس الجمهورية كصاحب صلاحية التفاوض لعقد المعاهدات الدولية وإبرامها، وقيادة الجيش في تنفيذ الشق العملاني من القرارات الدولية ولا سيما القرار 1701. هذان الموقعان أصبحا في صلب المعادلة الإقليمية والدولية في التفتيش عن حلول مستدامة للبنان. لكنّ الخطوة الأولى بدأت مع قيادة الجيش.حزب الله كان يدرك ذلك منذ وقت طويل، ويعرف تماماً أن المنطقة، كانت مقبلة على متغيّرات منذ بدء الانفتاح الخليجي على إسرائيل، والذي لم ينته بالضرورة رغم كل ما يجري في غزة. لذا كان من الصعب على معارضي حزب الله تجاوز ما أراده من قيادة الجيش. في البدء، كان قائد الجيش العماد جوزف عون مرشحاً غير مستبعد، ولو رسا خياره الأول على مرشح تيار المردة سليمان فرنجية. ولم تكن علاقة عون بحزب الله علاقة سيئة، ولم تصل يوماً إبان وجوده قائداً للواء التاسع في الجنوب إلى أي نقطة احتكاك. وبعد تعيينه، اطمأنّ حزب الله إلى خيار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون رغم معارضة رئيس التيار جبران باسيل لهذا التعيين. وظلّت العلاقة قائمة على تنسيق، عزّزته معركة فجر الجرود.
لم تكن العلاقة بين قائد الجيش والحزب لتحاط بهذه الإشكالية، وتذكّر بما كانت وصلت إليه العلاقة بينه وبين الرئيس السابق ميشال سليمان في أواخر عهده، لو لم يتحوّل إلى مرشح لرئاسة الجمهورية في منتصف عهد الرئيس عون، إن لم يكن قبل ذلك. وليست الخلافات التي ظهرت مع باسيل وحدها التي فرضت على علاقة الحزب بقائد الجيش اعتبارات تبلورت لاحقاً جفاء، ومن ثم قنوات اتصال وثناء متبادل، لتصل في لقاء علني مع رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، كأول لقاء بين الحزب و»المرشح الرئاسي». ومع ذلك ظلّت علامة الاستفهام قائمة حول موقف الحزب الحقيقي من قائد للجيش، هو على تنسيق دائم ومعروف من جانب الحزب مثله مثل أي قائد أو ضابط رفيع مع الجهات السياسية والعسكرية والدبلوماسية الأميركية، فكيف إذا كانت واشنطن هي من تمدّ الجيش بالمساعدات والأموال اللازمة.
في هذا الوقت، كانت القيادات المارونية كأحزاب معارضة لحزب الله وحليفة له، تنظر إلى قائد الجيش كمرشح محتمل تناقش التعديل الدستوري وطرحه كمرشح الخيار الثالث، لكنها لم تقارب موضوع انتهاء ولايته بجدية حتى الأسابيع الأخيرة. تماماً كما فعلت مع انتهاء عهد الرئيس عون، بحيث بدا للجميع وكأنّ هذين الاستحقاقين مفاجئان. لكن ما يميز ما حصل في الاستفاقة المارونية حول قيادة الجيش بخلاف ما حصل في موضوع حاكمية مصرف لبنان، وقبلها رئاسة الجمهورية، أن هذا التطور لم يحصل من دون دفع خارجي مباشر شمل المعارضة والحكومة والرئيس نبيه بري وحزب الله.
الداعمون للتمديد كانوا مطمئنين الى موقف ميقاتي الذي رد الجميل لبكركي
انفرد التيار الوطني بأنه حدّد مسبقاً موقفه ولم يخفه. منذ شهور وهو يعارض التمديد لقائد الجيش كما حصل مع اللواء عباس إبراهيم ومع مدير المخابرات السابق العميد طوني منصور الذي وقف باسيل كذلك ضد التمديد له. فيما انطلقت المعارضة بمجملها والمارونية في موقفها من التمديد، بسبب رفض التيار الوطني له. وردود فعلها في الأيام الأخيرة، تؤكد ذلك. تغطية بكركي له، بعد استقبالها باسيل، تأكيد إضافي. علماً أن لكل من هذه القوى أهدافاً مختلفة، ما تريده القوات من تثبيت علاقتها بالجيش كمؤسسة، يختلف عن موقف الكتائب التي لم تكن مؤيّدة لترشيح قائد الجيش للرئاسة. أما بكركي فلها حسابات أخرى، وموقفها متحمّس لعون كشخص، بفعل تأثيرات شخصيات سياسية ومالية معروفة، أكثر منه لفعل التمديد نفسه، ما يطرح علامات استفهام حتى في الأوساط الكنسية الفاعلة، حول هذا الحماس غير المبرّر بغير ما يتم التعاطي مع المواقع المارونية الأخرى ومع الدستور والقوانين.
لكنّ القوى المسيحية المعارضة ظلت تتوجّس من موقف حزب الله على اعتبار أنه مع حرب غزة. تشعب موضوع التمديد، مع بدء الرسائل غير المباشرة حول القرار 1701، ودخول اللجنة الخماسية على الخط، وزيارة السفير السعودي وليد البخاري لبكركي. وكانت الشكوك أيضاً تطاول ما قد يريده الرئيس نبيه بري حقيقة، من خلال أجواء تفيد بأنه لا يحبّذ بقاء عون في لائحة المرشحين للرئاسة، ولن يكون مرتاحاً أن يحظى بأصوات الأكثرية في المجلس النيابي، وهو أمر يتشارك به مع حزب الله.
في المقابل كانت تلك القوى المعارضة مطمئنة إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي استقبلته بكركي و»سايرته» القوات اللبنانية أكثر من مرة ولو أنها ستصر على نفي ذلك. لذا فاجأها أنه ذهب إلى تحديد جلسة الحكومة من غير تنسيق ثلاثي مع حزب الله وبري. وجاء التلويح بتعيين رئيس الأركان قبل إرجاء جلسة مجلس الوزراء، إيذاناً بفك الحظر، وبأن شهية حكومة تصريف الأعمال ستكون مفتوحة لأي تعيين يُغطى بأسباب موجبة. لكن مجدداً لم يخب أملها في ميقاتي، بسبب الضغوط الخارجية، وتنسيقه الدائم مع رئيس المجلس النيابي الذي أدار دفة الجلسة.
من خسر وربح في جلسة الأمس؟
هناك من استعاد بالأمس واقعة الترسيم البحري، ليقول إن حزب الله لا يستطيع بعد الآن أن يقول إن الضغوط الغربية لم تساهم في اتخاذ قرار كان حتى ظهر الغد غير ناضج. كل الاتصالات أسفرت عن قرار وحيد، بعد اللجنة الخماسية وزيارة البخاري لبكركي مع خلفيات غير سياسية بالكامل، المطلوب التجديد لعون. وحتى الساعات الأخيرة كان رهان التيار أن حزب الله سيمنع بري من عقد الجلسة، لكنّ النتيجة أفضت إلى العكس تماماً، ما يجعل من الصعب القفز فوق التفاوض الإقليمي والمحلي حول ما بعد حرب غزة ودور الجيش، ليكرّس الحزب بذلك ما كان يقال عن حوارات بين إيران والخارج حول لبنان ومستقبل حزب الله في الجنوب.
ربح عون الذي قاد معركة التمديد له بعناية مطلقة، ونجح فريقه بحملة إعلامية وسياسية منظّمة في بيروت والخارج، عبر فريق عسكري وسياسي قام بحملات مضبوطة الإيقاع، لمنع أي محاولة للتعيين، وسرّب أسماء ضباط كمرشحين لخلافة قائد الجيش، صوّب على بعضهم واستهدفهم، وحشد خلفه قيادات مارونية، وبدا في لحظات الدفاع عن عون، على أنه الزعيم الماروني الجديد الداخل إلى حلبة القيادات المارونية الأربع، متوّجاً بانتصار وبأصوات أكثرية مسيحية وبغطاء بكركي التي عرف فريقه كيف يحصل على بركتها.
ونجحت القيادات المارونية المعارضة في جعل الرأي العام يغضّ النظر عن مشاركتها في جلسة تشريعية، وفي أنها تحمل عنواناً سيادياً ومارونياً ومسيحياً وضد حزب الله، رغم أن لولاه ولولا بري لما حصل التمديد لعون وكلّ الضباط، وتبعاً لذلك يمكن السؤال لماذا لم يُعط هذا الحق للمدير العام السابق للأمن العام اللواء عباس إبراهيم؟ إلا أن هذا الانتصار وهمي إلى أن يتحوّل إلى أصوات حقيقية تصبّ في صندوق الاقتراع لعون رئيساً للجمهورية أو على الأقل إلى تبنّ علني له بدلاً من المرشح المعارض جهاد أزعور. وهو وهمي بقدر ما أن هذا الانتصار يصبّ في خانة الواقع الماروني – المسيحي المهترئ والذي يملأه الشغور من رئاسة الجمهورية والمصرف المركزي والمدير العام للطاقة والمالية والحبل على الجرار في القضاء. فضلاً عن اليوم التالي لهذا الانتصار «الماروني» فيما واقع لبنان في مكان آخر بين احتمالات الحرب والتفاوض الدائر حول مصيره.
الخاسر طبعاً هو التيار الوطني الحر. تحويله التمديد إلى معركة حياة أو موت، دفع المعارضة إلى أن تتكتّل للوقوف ضده. ورهانه المطلق على حزب الله جعله مرة أخرى لا يحتسب بدقّة أن للحزب خيارات إقليمية ومحلية لا تتناسب دوماً مع تطلعاته. مهما بالغ التيار اليوم في تصوير أخطاء الآخرين، فالنتيجة أنه ظل خارج التحالف الكبير الذي أعاد عون إلى اليرزة، وحكماً سيكون أعدّ العدة ليبدأ معركة جديدة ضده.
وفي اليوم التالي للتمديد أي خطاب سيقوله بعد اليوم قائد الجيش للسياسيين الذين اعتاد أن يوجّه إليهم الانتقادات، بعدما أصبح رهينة الأصوات التي أتت به قائداً مُمدّداً له؟