نشرت بعض وسائل الإعلام المحلية أخباراً عن تعيينات وتغييرات في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، معطوفة على قانون تمديد ولاية الهيئتين التنفيذية والتشريعية الذي أقرّ في كانون الثاني الماضي باقتراح نائبين من نواب الطائفة.
وحاولتُ أن أكون إزاءها صامتاً ومحايداً قدر الإمكان، نظراً لطبيعة التطورات الأمنية في المنطقة، والظرف المصيري الذي يمرّ به لبنان، والتهديدات الإسرائيلية والتكفيرية الوجودية التي تتعرض لها الطائفة والتي تحتاج من الجميع التعالي عن بعض الخلافات الدنيوية الوضيعة، والنزاعات الاعتبارية الحقيرة، لكن لا إلى مستوى مراكمة الانحراف والذهاب نحو الأسوأ في تكريس الأعراف.
لكنْ، أريد قبل أن استعرض بعض الملاحظات، أن أشير إلى أنّ مقالتي هذه ليست في معرض ذمّ أحد، ولا إثارة عداءٍ وخصومة مع أحد. كما أنّها ليست في معرض طمعٍ في منصبٍ فات أوان الطمع فيه، ولا جاهٍ يزيد صاحبه قلقاً مع تقدم العمر. فأنا لا أشعر بعقدة نفسيّة دفينة لاسترداد سؤدد قديم، ولا فيّ نقمة لا أستطيع التخلّص من حبالها، ولا استدرج أحداً لشقّ إسفين بين هذا الفريق وذاك. كل ما أبتغيه من هذه الكلمات رضا الله، وبعض اعتراضٍ للتاريخ، حتى لا أسجّل في كتاب الراضين على بدعة التمديد التي تتوارى حول تلبيسات وتعليلات ومكايدات لا يمكن القول عنها إلا أنها هراء ما بعده هراء.
أولاً: ما جرى ليس ابتعاداً عن نهج الإمام الصدر الذي أرسى القوانين والأنظمة وأراد لها أن تُطبّق عليه قبل غيره فحسب، بل غدا عطباً في النفوس وتجاوزاً لقيم حاكمة في الدين والتراث الشيعي. وبات الأمر كله على طريقة «تأمير قريش لنفسها»، وكما مُنع عمار بن ياسر، وله ما له من الأسبقية والفضل في الإسلام، أن يتدخل في شأن خلافة المسلمين، وقيل له: «لقد عدوت طورك يا ابن سمية»، يمنع على أبناء الطائفة من علماء ومفكرين أن يتدخلوا في شأن المجلس، ويقال لكل أحدٍ يرفع منهم الصوت مطالباً بالعودة إلى القوانين والمعايير «لقد عدوت طورك»! وكأن المجلس ملك خاص وخلافة خاصة تكره قريش الجديدة أن تصير إلى غيرها!
ثانياً: من المعروف بين المجتمعات البدائية والقبلية أنّ نوعاً من المشورة البسيطة الساذجة كان سائداً بين كبار السن ومن خبُر الحياة وعاش تجاربها. فحين تعترضهم قضية من القضايا العامة أو تتهددهم كارثة طبيعية أو يتوعدهم عدو، يلجأون إلى الاجتماع ويشتركون في النقاش ويتبادلون أطراف الكلام ويتجادلون حتى يستقر الرأي النهائي على ما يتبنّاه رئيس القبيلة. ولكن في حالتنا هذه، تبدو تلك المجتمعات القديمة أفضل حالاً منّا وأرقى سلوكاً، فلا تنكر وجود الكبار وأهل الخبرة ليكون لهم، ولو من ناحية شكلية، حق المشورة وإبداء الرأي.
ثالثاً: من المفارقات العجيبة، وربما علينا الاستعانة بخبراء لنفهم أكثر طبيعة النفس البشرية، أنّ مَن يرفض التمديد للمجلس النيابي الحالي ويدعو إلى انتخابات على أساس قانون عادل، والاحتكام إلى الناس، هو من يمرر بدعة التمديد للمجلس الشيعي. ذلك أنّ من الصعب جداً، بل من المستحيل، أن تقنع أحداً بفهم هذه الإزدواجية. فتأتي بأدلة على محاسن الانتخابات هناك وضرورتها، وعلى مساوئها هنا وخطورتها. إذ لا يمكن تفسير ذلك إلا بانعدام القدرة على الاستئثار في حالة الانتخابات النيابية، وإمكانيتها في حالة المجلس الشيعي. وكون الانتخابات النيابية لن تغيّر في الاحجام والموازين والمصالح، بينما في الثانية فلا ضمانات لاستمرار الأثرة وامتداد النفوذ.
رابعاً: لقد ناديت بالانتخابات حتى في عهد المرحوم الامام محمد مهدي شمس الدين، على عكس بعض الأصوات التي ترتفع اليوم بدافع مصلحي أو بخلفية نزاعية مع المجلس الحالي والجهة السياسية المهيمنة على إدارته. لأنّ القضية يجب النظر إليها من زاوية تطبيق القانون وإجراء الانتخابات ضمن المهل الزمنية المحددة، وليفز من يفز إذا كان حائزاً على المواصفات المطلوبة ولديه المؤهلات والقدرات اللازمة. لقد بتّ اليوم أكثر قناعة وأدرك أكثر من أي وقت مضى أنّ أحد أسباب تطور الحضارة الغربية هو مبدأ التداول. وأنّ تأخرنا وتخلّفنا وسواد حالنا يعود بدرجة أساسية إلى الاستئثار بالسلطة لمدة زمنية طويلة ومخالفة القوانين والأنظمة بتبريرات وذرائع واهية لا يكمن وراءها إلا الاستبداد ونيل المكانة العالية والسمعة الواسعة. وطالما نحن مستبدون بالسلطة باقون على هذه العادة المشؤومة فعلينا أن لا نتوقع إلا سوء التدهور والتراجع في مؤسساتنا ومنها مؤسسة المجلس الإسلامي الشيعي الاعلى.
خامساً: إنّ التذرع بعدم إمكانية إجراء الانتخابات نظراً للعدد الكبير من الأشخاص الذي بات يملك حق الاقتراع مردود من أصله. إنّ هذه الذريعة في هذا الزمن الذي ذلل فيه الإنسان الطبيعة القاسية لصالحه، خداع واستغباء وحيلة لا تنطلي على العقول الواعية. إنّه بالامكان عبر الوسائل التقنية إجراء هذه العملية بسهولة تامة وبتنظيم دقيق. ولكن العلة لا تكمن في الوسائل بل في النفوس التي تحرم آلاف الطاقات الواعدة أن يكون لها دور في نهوض هذه المؤسسة التي حرص مؤسسّها أن تكون قوية منيعة حاضنة منفتحة، تهدف إلى خدمة أبنائها، وتحصين وجودهم، وتنظيم شؤونهم، ورفع مكانتهم العلمية والاجتماعية والوطنية.
سادساً: إنّ تهريب التمديد في المجلس النيابي لطخة عار لمن يسنّون القوانين ليطبقها المواطنون. فإذا كانوا هم أول من يخالفها ويخرقها ندرك إلى أي درك وصلنا إليه، وأي تناقض يقوم به هؤلاء في مهامهم. إذ يكون أحدهم حضارياً عندما تكون المصلحة تقتضي الظهور بزي الحضارة، وعشائرياً حين تقتضي المصلحة أن يكون بزي العشيرة وتقاليدها.
ويبدو أننا في حاجة ماسّة لنكشف عن مكامن هذه الإزدواجية في ممثلينا للندوة البرلمانية، وأن نحاول إظهار مخالفة هذا الإجراء لأبسط القواعد التي يقوم على أساسها وجودهم داخل الندوة نفسها.
سابعاً: إنّ الطائفة تضم في صفوفها آلاف النخب الدينية والعلمية والثقافية. إنّ هذه النخب تحمل تطلعات وأفكاراً غير محدودة، ولكنّها لم تأخذ نصيبها من الحضور والتفاعل. بل بقيت مهمّشة مغيّبة، حتى لم يتم التملّق لها لأخذ رأيها، لأنّ السياسة عندما تطغى تستغني عن كثير من العلاقات، ولا تعود بحاجة إلى تمهيدات ومناقشات مع أهل الشأن والعلم لتنفّذ مشيئتها. ولكن يؤسفني أن أجد من يفترض أن يكونوا ثائرين على الحالة الشاذة يشاركون في ترسيخها بطريقة وبأخرى.
ثامناً: لقد اشترط القانون الذي وُضع في عهد الإمام الصدر أن يكون رئيس المجلس مجتهداً. ولم يكن هذا الاشتراط اعتباطياً، بل قُصد به أن تقدّم الطائفة أفضل وأنبه وأذكى وأورع وأكفأ أبنائها. وشرط الاجتهاد غير متحقق بالشيخ عبد الأمير قبلان مع كل احترامي لشخصه. وكلنّا يعلم خطورة وحساسية هذا المنصب وما يجب أن يتمتع به الشخص المرشح. ولا يجب هنا أن نحابي أحداً ولا نخدع أحداً. فالاحترام والمحبة وحتى الطموح شيء، والترشح لهذا المنصب ضمن المواصفات التي حددها القانون شيء آخر. ثم إنّ الطائفة اليوم تضم لا أقل من عشرة مجتهدين يُشار إليهم بالبنان. فلماذا يُحرم هؤلاء من أن يكون لهم حظ في الترشح وقسط في خدمة هذه الطائفة.
تاسعاً: إنّي أرى أنّ قضية المجلس يجب أن يعود شأن انتظامها إلى الولي الفقيه. وقد ناقشت هذه المسألة مع كثيرين. وأنا مؤمن بهذا الرأي ومقتنع به أشدّ الاقتناع. ليس في ذلك محاباة لأحد ولا تعريضاً بأحد. لكن قضية المجلس وما تحمله هذه المؤسسة من أبعاد سياسية ودينية هامة على مستوى العالم العربي لا يمكن أن تكون بعيدة عن نظر الولي.
عاشراً: إن الذي يدفعني إلى الاحتجاج على هذا الواقع هو أني أرى تراث الإمام الصدر نهباً ومغانم للقسمة. ولكني لست ممن لا يرى إلا السوء ولا ينظر إلى أي إيجابية تصدر من هنا وهناك. ولكني أحاول أن أذكر وجه الصواب في قضية باتت تحتاج مقاربة جديدة تصحح هذا التبعثر وتعيد إلى المؤسسة ألقها.