قبل فترة وجيزة، أعلن المجلس البلدي للعاصمة الليبية عن اختفاء تمثال «الحورية والغزالة» الذي يُعتبَر من أهم المعالم التاريخية لمدينة طرابلس. وقد صممه الفنان الإيطالي أنجيلو فانيتي إبان الاحتلال الإيطالي لليبيا، وثبته في ساحة تقع وسط ميدان العاصمة بالقرب من فندق الودّان والفندق الكبير.
وسبق لهذا التمثال أن تعرض لمحاولة تدمير بواسطة قذيفة «آر بي جي» بحجة المحافظة على الأخلاق والحشمة وتنظيف طرابلس من كل الرموز الأجنبية التي تذكر المواطنين بالاستعمار الإيطالي ومظالمه.
وانتقدت الصحف الأوروبية ذلك العمل، معتبرة أن النظام الليبي الجديد يقلد المخالفات التي ارتكبتها «طالبان» في أفغانستان، خصوصاً واقعة تحطيم أضخم تمثال لبوذا محفور في الصخر. ولما اتسعت حملة الاستنكار والاعتراض، دافعت «طالبان» عن موقفها بالادعاء أنها تنظف البلاد من تاريخها السابق، ومن أفكار عبدة الأوثان.
أما بالنسبة إلى محاولة تدمير تمثال «الحورية والغزالة»، فان عضو المجلس البلدي، محمد بانون، أعلن أنه أصدر مذكرة في شأن نقل التمثال بغرض الصيانة. ولكنه فوجئ بأن مجهولين سرقوه في الليل وأخفوه بعيداً عن الأنظار.
مصادر أمنية اتهمت جماعة «فجر ليبيا» بافتعال العمل، بهدف إثبات سيطرتها على المؤسسات التابعة للعاصمة. خصوصاً بعد قيامها بإحياء المؤتمر الوطني المنتهية ولايته، وتشكيل حكومة برئاسة عمر الحاسي. واعتُبِرَت تلك الخطوة السياسية الاستفزازية بمثابة اعتراض سافر على حكومة عبدالله الثني التي شكلها البرلمان المنعقد في مدينة طبرق.
كذلك شهدت العاصمة، ومدن ليبية أخرى، عدة عمليات مماثلة لعملية «ميدان الغزالة»، استهدفت معالم دينية وأضرحة بينها ضريح الشيخ أحمد الميرغني الذي يرجع تاريخه إلى أكثر من سبعمئة سنة.
وتُعتَبَر ليبيا بلداً غنياً بالمعالم الثقافية والإنسانية، إذ تضم مناطقها الشرقية والغربية آثاراً مختلفة لحضارات أفريقية وفرعونية ورومانية وفينيقية. وكان معمر القذافي قد أمر أثناء فترة حكمه بإظهارها ضمن منشورات المكتب السياحي.
يقول بعض المؤرخين إن طرابلس الغرب في ظل حكم الميليشيات المسلحة لا تختلف كثيراً عن طرابلس لبنان في زمن الفينيقيين. ذلك أن المدينة التي أخذت اسمها من المدن الثلاث (تري-بولي) كان يتعاون على حكمها ثلاثة ملوك في وقت واحد. وقد عرفت فترات ازدهار واستقرار وسلام، عندما كان الملوك في حال صفاء ووفاق واتحاد.
وخلال فترة تزيد على المئة سنة عقب انحلال الامبراطورية الإغريقية السلجوقية، عاشت المدن الفينيقية، من صور حتى طرابلس، عصراً من الفوضى ليس له مثيل. خصوصاً بعدما حكم جبيل وصيدا وصور وطرابلس متسلطون إرهابيون. تماماً مثلما تعاني المدن الليبية الثلاث: طرابلس وبنغازي وطبرق، من حكم المسلحين.
صحيح أن تنظيم «القاعدة» كان السبّاق إلى احتلال موقع متقدم عبر الفوضى التي استشرت بعد مقتل القذافي… ولكن الصحيح أيضاً أن تنظيم «داعش» أعلن عن افتتاح فرع له في ليبيا يكون امتداداً لحكمه في بلاد الشام والعراق.
واللافت أن ممثله في ليبيا لم يرضَ بتقاسم النفوذ مع الميليشيات الأخرى، وإنما أعلن نفسه «أميراً» يدين بالولاء لـ «أمير المؤمنين» في الموصل الخليفة البغدادي.
ويرى مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، برناردينو ليون، أن واقع التشرذم الليبي قد يتكرس نهائياً في حال أصرت الميليشيات على مقاطعة مؤتمر الحوار. أي المؤتمر الذي دعا إليه رئيس البرلمان الجزائري محمد ولد خليفة. وفي تصوره أن استمرار حال الفلتان في ليبيا، ربما يشجع الدول الأوروبية على إرسال فرق تابعة لقوات التدخل السريع من أجل فرض النظام والقانون.
والثابت أن هناك سباقاً بين مشروع الدستور الدائم والميليشيات المسلحة التي تستغل الفراغ الدستوري لتثبيت الانقسام الحاصل. وكانت الهيئة المعروفة باسم «لجنة الستين» قد أعلنت أن المسودة الأولى لمشروع الدستور ستُعرَض على الشعب أواخر الشهر المقبل. ولكن قبل الوصول إلى هذه المرحلة لا بد من مراجعة الطعون في شرعية انعقاد مجلس النواب في طبرق التي تبعد أكثر من 300 كلم عن بنغازي، المقر الدائم للبرلمان.
الوزير اللبناني السابق طارق متري، طرح مقترحات عدة عندما تولى مهمة المبعوث الخاص لقضية ليبيا. ومن أبلغ تلك المقترحات التي قدمها إلى أمين عام الأمم المتحدة، ما جاء من ضرورة إيجاد حل سياسي شامل قبل القفز إلى مرحلة الانتخابات العامة، وجمع السلاح، وإصدار دستور حديث ينسجم مع تطلعات الشعب الليبي.
وفي الندوة التي عقدها الدكتور غسان سلامة في باريس، تحدث متري عن التحديات الحقيقية التي يواجهها خلفه، فقال: أولاً – طغيان المجموعات المسلحة على المنشآت النفطية، الأمر الذي أدى إلى خفض الإنتاج من 900 ألف برميل في اليوم، إلى 600 ألف برميل.
ثانياً – جماعة طبرق أقالت حاكم البنك المركزي الذي انتقل إلى مالطا بحثاً عن الهدوء، وإقامة توازن مرضٍ بين الفرق المسلحة.
ثالثاً – بما أن المسؤولين في ليبيا قد صرفوا نصف الاحتياط المالي المُقدَّر بسبعين بليون دولار، فان المؤشر الاقتصادي يحذر من بلوغ حال الإفلاس آخر السنة المقبلة. خصوصاً أن صندوق النقد الدولي كان قد حذر أيضاً من صرف عائدات النفط من دون حساب.
وبسبب فقدان الحكومة المركزية، فان كل التحذيرات والتحفظات ذهبت أدراج الرياح. لذلك قرر المبعوث الدولي إلى ليبيا، برناردينو ليون، معالجة القضايا الأمنية قبل الانتقال إلى معالجة القضايا السياسية والاقتصادية الحيوية. ولكن عملية التنفيذ اصطدمت بحواجز صعبة لا يستطيع المبعوث تحقيقها من دون مساندة الأسرة الدولية وتدخلها العسكري المباشر. ذلك أنه اكتشف أن لدى الميليشيات أسلحة متطورة تحتاج إلى أكثر من سنة لشراء مثيلاتها بعد إنشاء الجيش الوطني النظامي.
والثابت أن قادة المجموعات المتطرفة كانت تشجع أنصارها على جمع السلاح من معسكرات القذافي عقب مقتله وانفراط عقد الجيش الذي أسسه على امتداد أكثر من أربعين سنة.
وبعد فترة وجيزة، أي عندما تعهد رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبدالجليل بحماية الثورة، وأعلن أن الإسلام سيكون المصدر الرئيسي للتشريع في ليبيا الجديدة… عندها فقط خرجت المنظمات المسلحة من مخابئها وشرعت في احتلال المدن الكبرى والصغرى.
وكانت مدينة سرت مسقط رأس القذافي، أول مدينة يهاجمها الثوار ويحتلون القاعدة العسكرية المقامة إلى جوارها. علماً أن هذه المدينة كانت مجرد قرية صغيرة، مهملة، يقطنها صيادو الأسماك. ولكن القذافي طورها، وجعلها العاصمة الثانية بحيث أنه حولها إلى مركز استقبال لنظرائه من زعماء العالم.
ومن المؤكد أن عبدالجليل لم يكن يدرك أبعاد الخطاب الذي ألقاه في طرابلس، يوم تحدث عن الإسلام الوسطي، وقال إنه لن يسمح بوجود أيديولوجيات متطرفة، يميناً أو يساراً.
وبعد مرور أقل من ثلاث سنوات على ذلك التصريح فوجئ قائله بظهور أكثر من عشرين تنظيم مسلح يتنافس قادته على احتلال المدن. وتأتي في طليعة هذه التنظيمات «القاعدة» و»داعش» و»الإخوان المسلمون» و»أنصار الشريعة» المنتمي إلى مجلس ثوار بنغازي.
ويسيطر الإسلاميون في ليبيا سيطرة كاملة على مفاصل الدولة التي لم تولد بعد… أو الدويلات التي لم تستكمل انفصالها بعد. وبينها تيار قديم استوحى نموذج «الإخوان المسلمين» في مصر. وينتسب عدد كبير من سكان المناطق الشرقية إلى هذا التيار المحافظ. في وقت تحاول مصر ضبط تحركات أعضائه على الحدود خوفاً من تسلل الانتحاريين. كما أن الجزائر لا تنظر بعين الرضا إلى ظهور مقاتلين متطرفين من ليبيا، سبق أن طاردتهم، واعتقلت عدداً من الذين تدربوا على القتال في أفغانستان والعراق.
وتتوقع الدول الأوروبية أن يكون النظام الجديد في ليبيا أكثر انسجاماً مع متطلبات الإسلام المعتدل، وأن يقبل اللعبة الديموقراطية بكل مظاهرها وصعوباتها. وترى مصادر الأمم المتحدة أن نزع سلاح الميليشيات أصبح من المستحيلات بعد استيلاء الفرق الكبرى على ثلاث مدن اعتبرتها عواصمها الشرعية في دولة تبحث عن هوية وطنية موحدة.
وبناء على هذه الوقائع، ترى الجامعة العربية أن ليبيا دخلت مرحلة الفوضى الخلاقة، وأن المقاتلين المتطرفين سيتعمدون زعزعة الاستقرار الداخلي والإقليمي.
هذا الأسبوع نشر أحد الأكاديميين الألمان نص اقتراح في صحيفة «نيويورك تايمز» طالب فيه بضرورة تشكيل قوة حفظ سلام خاصة بليبيا. واشترط أن تكون دول الاتحاد الأوروبي المصدر الأساسي لتكوين عناصرها. والغرض من وراء تشكيل هذه القوة، بحسب رأيه، إزالة أسباب الحرب الأهلية عن بلاد تشكل بوابة الاستقرار لدول شمال أفريقيا ودول البحر المتوسط.
والدافع الأساسي لهذا الاقتراح يتمحور حول طبيعة الانقسام بين طرابلس وطبرق. فالأولى تضم رئاسة الحكومة ومجلس النواب، إضافة إلى دعم الميليشيات المسلحة. والثانية تدَّعي أنها تملك آلية حكم مشابهة، وأن مظاهر الشرعية ترشحها لأن تكون عاصمة المستقبل.
وأمام هذا التناقض في الأدوار والمسؤوليات، يتخوَّف مجلس الأمن أن تصبح معركة الكرامة، التي يشنها اللواء خليفة حفتر في بنغازي، مركز استقطاب لحرب أهلية واسعة تجذب إلى لهيبها طرابلس وطبرق معاً…