Site icon IMLebanon

تحوّلات خارجية تفرض التهدئة لا التعبئة

ثمّة مؤشّرات لتحوّلاتٍ جذريّة قد تحصل مستقبلاً، وهو ما يفرض على الجميع التعاون لتثبيت وقف إطلاق النار في سوريا والإسراع في الشروع الجدّي في تركيز الأسس التي ستقوم عليها سوريا مستقبلاً ومن خلالها فتح واقع جديد للمنطقة.

الحملات الإنتخابية التي تسود أرجاء الولايات المتحدة الأميركية أظهَرت وجود «مزاج» شعبي جديد لم يكن موجوداً سابقاً، فيوم أعلن دونالد ترامب ترشّحه للإنتخابات الرئاسية وانطلق بخطابه الحاد والمتطرّف ضدّ مجموعتين: المكسيكيون والمسلمون، ساد الاعتقاد بأنّ المليونير الأميركي أنهى سباقه الرئاسي قبل أن يبدأ، ليتبيّن لاحقاً أنّ شريحة واسعة من الأميركيين، وتحديداً الفئة التي تنتمي الى التيار المحافظ والتي يغلب عليها اللون الأبيض مشَت بقوة وراء ترامب وهي تكاد توصله ليكون المرشح الرسمي للحزب الجمهوري، وذلك لم يكن يحدث سابقاً، لا بل على العكس كان الشارع الأميركي ينبذ أصحاب المواقف الراديكالية والمتطرفة.

ولا يحتاج الذين يزورون الولايات المتحدة الأميركية الى كثيرٍ من الجهد ليسمعوا من العديد من الناس لهجة عدائية تجاه النازحين المكسيكيين والمسلمين.

في أيّ حال، فإنّ الساعين إلى دخول البيت الابيض يحملون في معظمهم توجّهات «محافظة» باستثناء قلة من بينهم هيلاري كلينتون.

صحيح أنّ الخبراء في الشأن الأميركي يعتقدون، أو ربما يأملون، أن تؤدّي المواجهة النهائية بين مرشّحَي الحزبين الجمهوري والديموقراطي الى فوز كلينتون في حال نجَح ترامب في انتزاع تمثيل الجمهوريين، لكنّ هؤلاء يتوقفون ملياً أمام الواقع الجديد الذي بات يغلب على فئاتٍ واسعة من الأميركيين والتي سيقع الرئيس المقبل أيّاً يكن تحت تأثيرها.

ويعتقد هؤلاء الخبراء أنّ الأميركيين الآتين من اميركا الجنوبية والأميركيين السود سيواجهون ترامب في النهاية، هم الذين شكلوا مفتاح الفوز ومن ثمّ التجديد للرئيس باراك أوباما. أضف الى ذلك حضّ الفاتيكان على التدخّل بغية التأثير على الناخبين الكاثوليك، وقد يكون موقف البابا من «عنصرية» ترامب تجاه المكسيكيين والمسلمين إشارة أولى ستليها حتماً إشارة اقوى قبيل المنازلة النهائية.

لكنّ كلينتون نفسها لن تستطيع الابتعاد كثيراً من الواقع الشعبي الجديد، ما يعني أنّ سياسة «الحمائم» أو التي وصفها أوباما بـ»القوة الناعمة» ستنتهي مع خروجه من البيت الأبيض. وربما وفق هذه الحسابات يبني الأفرقاء المتضرّرون من الاتفاق النووي مع إيران حساباتهم، وفي طليعة هؤلاء الحكومة الإسرائيلية ودول الخليج العربي.

لذلك ربما وافقت الإدارة الأميركية على الحملة العسكرية الروسية، ولا سيما في اتجاه حلب، بهدف خفض سقف معارضي التسوية مع الرئيس بشار الأسد والإيحاء بأنّ عامل الوقت قد لا يكون في مصلحة هؤلاء لا بل إنه سيؤدي الى تكريس الخسارة العسكرية لمعارضي الأسد وبالتالي خروجهم من الميدان السوري، وليس سراً أنّ هذا العامل ساهم في خفض سقف الدول المناهضة للأسد.

وبخلاف ما يعتقده كثيرون فإنّ دوائر صنع القرار الأميركي هي التي تتمسّك بإنجاز تسوية مع إيران في سوريا، بالشراكة مع روسيا ووفق مبدأ تأمين المصالح الأميركية.

ولكنّ المزاج الشعبي الأميركي ساهم في تليين مواقف إيران بعض الشيء ودفعها إلى التخلّي عن سياسة المماطلة على أساس أنّ دخول الآلة الحربية الروسية يُقوّي موقع النظام ويزيد من وهن معارضيه.

فعامل الوقت أصبح يختزن كثيراً من المخاطرة مع إدارة أميركية قد تكون عدائية. صحيح أنّ الاتفاق أُنجز وتمّ تثبيته لكنّ ترك سوريا بلا أسُس ثابتة للتسوية قد يسمح للمحور السعودي – التركي باستعادة أنفاسه لاحقاً.

والتحوّلات الشعبية ليست محصورة بالشارع الأميركي فقط، بل ظهرت في إيران، ولو بطريقة معاكسة. فالانتخابات الأخيرة حملت مؤشرات مهمة بدت واشنطن مرتاحة تجاهها.

بالتأكيد فإنّ نتائج هذه الانتخابات لن تُغيّر شيئاً بنحوٍ فوري، لكنها تؤسّس لسلوك إيراني جديد راهنت عليه واشنطن خلال مفاوضاتها حول البرنامج النووي.

هي راهنت على أنّ فتح أبواب التعاون الاقتصادي وإطلاق يد الاستثمار في بلد غني كادت أن تخنقه العقوبات سيؤدي الى تعزيز فئة التجار ورجال الأعمال وبالتالي التراجع الحتمي للفئة العقائدية والايديولوجية.

وجاءت نتائج هذه الانتخابات لتُظهر صحة هذا الرهان، خصوصاً في العاصمة طهران التي تُصنع فيها وتُرسم سياسة البلاد. ويتحدّث خبراءٌ في الشأن الإيراني في مراكز الدراسات في واشنطن عن تأثير إعلامي حصل وفق خطّة وضعها مسؤولون كبار للتأثير في الناخب الإيراني من خلال وسائل إعلام أميركية وغربية (بريطانية) تتوجّه الى الداخل الإيراني، وبعض هذه الوسائل يتحدث اللغة الفارسية. وبدا أنّ القاعدة الشعبية تؤيّد، لا بل تحتضن الانفتاح الاقتصادي والسياسة الداعية له.

في المقابل لم تنجح سياسة المحافظين في رصّ الصفوف خلف عناوين المخاوف العسكرية والمخاطر الأمنية التي شكلت الساحة السورية عنواناً لها، إضافة الى النزاع مع دول الخليج.

هذا يعني أنّ إيران ذاهبة أكثر فأكثر في اتجاه أن تلعب دور الشريك في استقرار المنطقة وفق قواعد المصالح السياسية والاقتصادية. مع الإشارة إلى أنّ نتائج هذه الإنتخابات ستؤثر مباشرة في اختيار خلف مرشد الثورة السيد علي خامنئي الذي أصبح متقدماً في السنّ ويعاني من مشكلات صحية.

ما يعني أنّ وصولَ شخصية محسوبة على الإصلاحيين الى موقع مرشد الثورة أصبح ممكناً بعدما كان صعباً في السابق، مع اقتناع الغربيّين بأنّ الإصلاحيين سيستمرون تحت عباءة السيد خامنئي السياسية خلال المرحلة الحالية، ولو أنّ البعض يتوقع مرونة أكبر من المحافظين بعد ظهور مزاج الشارع.

تبقى ملاحظة أخيرة بأنّ أحداً في الغرب لا يراهن على انقسامات إيرانية داخلية عنيفة كما حصل مثلاً مع «الثورة الخضراء». ففي إيران مؤسسات جدّية والأهم شعور قومي قوي ومطلق وولاء لوحدة الدولة وتماسكها.

وهذا أيضاً يُحتّم على المحافظين اختصار الوقت وترتيب الساحات في الشرق الأوسط وفق المعادلات الحالية وعدم الرهان على المجهول، خصوصاً أنّ التيار المحافظ نجح في تعزيز أوراق إيران الإقليمية ووسّع من دائرة نفوذها ليصل الى شاطئ المتوسط والى قلب الخليج.

كلّ هذه المتغيّرات الأميركية والإيرانية تدفع في اتجاه اختصار الوقت وإرساء التسويات، أو على الأقل تثبيت ركائزها في العراق وسوريا واليمن ولبنان أيضاً. لذلك تعتقد واشنطن أنّ الظروف السائدة ستسمح بتثبيت وقف إطلاق النار في سوريا، أضف الى ذلك أنّها أنجَزت تفاهماً كاملاً وسرّياً مع شريكها الجديد في المنطقة، أي روسيا التي يهمّها جداً تحقيق أهدافها ومصالحها من دون انزلاقها في حرب مفتوحة أو الغرق في رمال متحرّكة على غرار ما حصل معها في أفغانستان.

ومعه وتحت غطاء وقف إطلاق النار الذي لا يشمل «داعش» و»جبهة النصرة»، تستمرّ المكاسب الميدانية الثمينة في محافظة حلب والمناطق المحيطة بالعاصمة دمشق.

أما في لبنان، فإنّ المراقبين الغربيين يتوقّعون سلوكاً أكثر واقعية لكلّ الأفرقاء وخضوعهم لعامل الحدّ من الوقت الضائع. وفيما بدا أنّ الاتفاق الأميركي – الروسي في شأن مستقبل سوريا يُكرّس لامركزية واسعة أو ربما فيدرالية بحيث تكون للجميع حصص في الدولة المستقبلية مع أرجحية واضحة داخل تركيبة السلطة لمصلحة النظام الحالي، فإنّ الساعين إلى ربط مستقبل النظام السياسي في لبنان بسوريا، يُخاطرون بجعل مستقبل الدولة اللبنانية شبيهاً بما يجري طبخه لسوريا. أي إنّ البديل عن «إتفاق الطائف» دولة لامركزية الى الحدّ الأوسع وليس أبداً تعديل الحصص داخل مواقع القرار يُكرّسه دستور جديد.

من هنا ما يأمله البعض في إنجاز تسوية لبنانية سريعة تشمل تعديلاتٍ معقولة وانتخاب رئيس جديد يحظى بموافقة كلّ الأطراف لضمان مواقع الجميع والتمهيد لذلك بترسيخ التهدئة وليس الانزلاق في التعبئة، خصوصاً أنّ التحوّلات الخارجية أكانت الأميركية أم الإيرانية تدفع الى سلوك هذا الطريق وعدم الرهان على عامل الوقت… عسى أن يعي الموارنة ذلك.