تجتاح العالم موجة من التطرّف المُتنامي ككرة ثلج تلفّ حولها المنتمين لحركاتٍ مُشابهة، وتجرف معها ما بني في السنوات الماضية من علاقاتٍ دولية تعاونية، ويُقابل كل خط تطرّفي، تطرّف من نوعٍ آخر. وتنتشر هذه الظاهرة المُدمّرة في الكثير من أرجاء العالم وزواياه، وتتراكم القضايا المُتفجّرة، لتتنفّس بمواجهاتٍ عسكرية، تهال لها الانسانية. وتنمو الأجيال الصاعدة على مشاهد العنف والتعصّب، لتدفعها للتوحّد خلف فكر تطرّفي مُقابل فكر آخر، مقتنعةً به كخط دفاع جماعي عن ثقافاتها ومعتقداتها.
ومع كل تطرّف يظهر بمكانٍ ما، ينبت تطرّفٌ آخر مقابل له، ويتمّ طحن الحضارات الداعية إلى المنحى التعايشي والانساني، بمطحنة المطابخ والأفران التعصّبية. ويدخل الاعلام العالمي إلى المعركة بضخّ النظريات الناقصة حول واقع التطرّف، فيُسوّقه كأصوليات دينية، فقط، في حين أنّه لا يُمكن حصر التطرّف في قفص الحركات الدينية، كونه فكراً مُنغلقاً وإلغائياً، أينما حلّ، وقد يكون ايديولوجياً أو عرقياً أو حتى اجتماعياً. ولكنّه بكافة اشكاله، تطرّف ضدّ الانسانية الحرّة، وبعكس الحسّ والانتماء الوطنيين، وفي جميع فصوله ومساراته، مترافق مع بعضه البعض، لرسم خطوط حمر بين الشعوب.
وباسم القضايا المُحقة، ولأجل محاربة التطرّف، تنشأ مجموعات وأحزاب ومنظّمات وأنظمة، لتقترف المجازر والقمع ولتمتهن القتل والتهجير، فترفع شعارات جميلة، لكنها تُطبّق مقولة لجون رولز أوردها في كتابه «نظرية العدالة» وتنص على «لا للغرائزية ولا للتراجع ولا للخوف ولا للاستسلام» فتصبح معادلة محاربة الغرائزية، بـ»لا للاستسلام» أمامها، ولكن ليس بالتوعية ضدّها، بل بالتطرّف ضدّها، فتندلع الحروب وتسقط الحلول. وتتجيّش الشعوب خلف الأفكار المدسوسة في الجموع، فتصُدقْ حينها نظرية شارلز – ماري غوستاف القائلة إنه «عندما تجتمع مجموعة من الناس وتندمج لتكوين حشد، يكون هناك تأثير مغناطيسي منبعث من الحشود، ينقل سلوك كل فرد حتى يحكمه عقل المجموع، وأنّ اللاوعي الفردي ينصهرُ ضمن اللاوعي الجماعي» فتتكودر المجتمعات لمواجهة بعضها البعض، من دون أن يُحرّك ساكناً، زعماء العالم الحاليون وقادتها لقلب المسارات من صراعاتٍ بين الحضارات إلى حواراتٍ بين الحضارات، لقصر نظرهم ولفقدانهم الكثير من صفات القادة الحقيقيين المُدعّمين بالمفاهيم الفلسفية والارث العلمي والاجتماعي، والقدرة على أخذ المُبادرة والتعاطي بالشجاعة مع الازمات، ولطرح الحلول الحقيقية، فيقود هؤلاء القادة دولهم وشعوبهم إلى المواجهات والحروب. وقد وصفهم ونستون تشرشل في زمنه «تصنعون من الحمقى قادة، ثم تسألون من أين أتى الخراب».
عندما نشأ لبنان على مبدأ التوازن والاعتدال والديمقراطية الحكيمة والتشارك، بميثاقٍ سمّي على اسم واضعه، ميشال شيحا، كان همّ هذا الرجل العميق الرؤية، أن ينشأ لبنان نقيضاً للتطرّف وللأصوليات وللتعصّب وللديكتاتوريات ولتسلّط فريقٍ على آخر، ولكن عندما جنحت مجتمعات الشرق الاوسط إلى التطرّف، تأثر اللبنانيون بهذه الأجواء الجاذبة للفرد إلى الجماعة، فسقطت الدولة اللبنانية، لأنها خسرت معناها الأساسي، وسقط معها أيضاً الكثير من دول الشرق الاوسط، حين خسرت البعد القومي والوطني لها، وخسر الفلسطينيون قضيتهم، بتحوّل الصراع العربي – الاسرائيلي صراعاً بين متطرّفين بدل أن يبقى صراعاً بين قوميتين، ومقاومةً لأجل حقوق شعب.
ومع دخول لبنان في منطق التطرّف والتطرّف المقابل، انهارت فكرة المواطنية، النقيض الحقيقي للتطرّف، ولم يعد لبنان إليها حتى مع خروجه من فترات التقاتل الداخلي، لأنّ السلطات التي حكمته لم تُخضع نفسها للقوانين ولم تعتمد حكم المؤسسات، بل تطرّفت باستغلالها للنفوذ، فسمحت للايديولوجيات والاصوليات بالتسلّل إلى الفئات اللبنانية المتنوّعة، وغذّت الحركات التطرّفية بعضها البعض، وتناغمت في حربها وعدوانيتها على السياديين والمتمسّكين بمبدأ الدولة العميقة، وجمهورية المؤسسات.
إنّ العودة إلى لبنان الشراكة، في جمهوريةٍ يُحترم فيها الانسان والحرّيات، وتعلو فيها القوانين والدستور على كل الحسابات الفئوية، تُعدّ رسالة سلام للمجتمعات القريبة والبعيدة. فحبّذا لو يُدرك اللبنانيون قيمة وطن الأرز ورسالته، الذي نشأ أساساً على مبدأ الحوار السلمي بين المعتدلين، لنبذِ التطرّف، ولمنع زمنه.