يكاد حال المسلمين في العالم العربي يصل إلى حروب الإلغاء على خلفيات مذهبية وعقدية، لم يستطع الإسلام التاريخي الخروج منها بعدما تحول السُنّة والشيعة إلى ضفاف منفصلة لا تتقاطع إلاَّ عند الفكر الاقصائي الذي لا يريد الاقرار بحق الاختلاف.
ليس التشنج المذهبي عاملاً طارئاً، لكنه وصل في العقود الأخيرة إلى مستوى من العنف غير المسبوق. فحركات الاحتجاج التي اعتبرها بعض المتفائلين حدثاً مفصلياً وعصراً جديداً، قد يؤدي إلى تغيير وجه المنطقة، أخرجت التراكمات الدينية الكامنة وفجرت المكبوت التكفيري الذي تتحصن خلفه المذاهب والفرق الإسلامية، وآلت إلى ارتفاع منسوب التطرّف المحكوم بخطوط التصدع الإقليمي والسياسي.
يرتبط التطرف بالعديد من المصطلحات منها «الدوغمائية»، ويحيل على الجمود العقدي والانغلاق العقلي. وبهذا المعنى، فهو أسلوب مُغلق للتفكير، يتسم بعدم القدرة على تقبل أي معتقدات تختلف عن معتقدات الشخص أو الجماعة أو التسامح معها. يتبنى التطرّف اتجاهاً عقلياً وحالة نفسية تُسمى «التعصب» للجماعة التي ينتمي إليها، والتعصب حالة من الكراهية تستند إلى حكم عام يتسم بالجمود وعدم المرونة، وقد يوجه إلى جماعة بأكلمها أو إلى عضو يمثل هذه الجماعة راجع: (سمير نعيم أحمد، «المحددات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف الديني»، في كتاب «الدين في المجتمع العربي»، مركز دراسات الوحدة العربية، 1990، وجوردن مارشال، «موسوعة علم الاجتماع»، ترجمة محمد الجوهري وآخرين، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2000).
شكل التطرّف الديني الذي يستند إلى مخزون من الأدبيات الفقهية التي تغذي القطعيات المذهبية وثقافة الكره والنبذ، رافداً لتعميم الأصوليات لدى السُنّة والشيعة، وأدى إلى توطيد العماء المذهبي لدى جمهور المؤمنين. نظر كل طرف إلى الآخر على أنه وحده مالك الحقيقة الدينية المطلقة، وما عداه خارج على الدين والصراط المستقيم. ساهم الخطاب السياسي الذي يحظى بغطاء ديني/ شرعي في تمتين حجم الاكراهات، وقلص دوائر التلاقي والتعايش الذي عرفه الإسلام الشعبي في حقب مختلفة مسكوت عنها. ولعل النمط التربوي الذي تتلقفه الأجيال العربية المسلمة في المدارس والجامعات والمعاهد الدينية، يضاف إليه ما يتلقاه الفرد ضمن الأسرة، أنتجا نوعاً من الأصولية المجتمعية، التي تُعتبر الأخطر على مستوى الأصوليات لجهة الفاعلية ونخر المجتمع وتدمير المشتركات، وتعميق جذور الخلاف المذهبي الناهض على أحادية في الفكر والرأي انطلاقاً من إيديولوجيا المذهب الواحد.
إن التخندق المذهبي الذي يجتاح العالم العربي، يستدعي قبل كل شيء إجراء إصلاح ديني يطال كل المنظومة الدينية، لا سيما تلك التي لها علاقة بفقه المذاهب. ويحتاج هذا التخندق إلى إحداث «القطيعة المعرفية» التي دعا إليها المؤرخ المغربي عبدالله العروي، داعية القطيعة مع «العقل التراثي» الاجتراري.
إن الإصلاح اللاهوتي أو التنوير الديني له الأولوية المطلقة من أجل مواجهة حال التمذهب بين المسلمين من سُنّة وشيعة. وفي هذا السياق، يرى هاشم صالح في كتابه «الإسلام والانغلاق اللاهوتي» أن العصبيات الطائفية والمذهبية التي تمزق المشرق العربي حالياً، تتطلب التنوير الديني و «تسليط أنوار العلم والفلسفة على الدين، وذلك من أجل التوصل إلى قراءة أخرى مختلفة تماماً عن القراءة المتزمتة التي تهيمن علينا اليوم. وتالياً، فالهدف ليس القضاء على الدين في المطلق، وإنما تفكيك التفسير التقليدي الموروث (…)، عندئذ يمكن فصل السياسة عن اللاهوت الطائفي المهيمن وكأنه حقيقة مطلقة، ويمكن تشكيل لاهوت ديني ليبرالي جديد كما فعلت المجتمعات الأوروبية المتقدمة المستنيرة».
يعبر التصلب المذهبي عن نفسه لدى السُنّة والشيعة في أساليب عدة، بينها النظر إلى الآخر المختلف بوصفه ذاتاً معادية ومفارقة لجوهر الدين الأصيل، وكذلك تأجيج الاحتراب الرمزي والمادي على المقدس. يحاول بعض الكتّاب القول إن التخندق السني ـــ الشيعي الراهن لا يرتبط بالأبعاد المذهبية أو العقدية، وأنه صراع سياسي بين الدول الكبرى المتقاتلة في الإقليم، تعمل على توظيف الدين في معركة النفوذ والسيطرة. وعلى أهمية هذه الخلاصة وعدم إنكار المؤثرات السياسية الإقليمية على المذاهب الإسلامية ورهاناتها الخطرة، من الأهم النظر إلى عنف السياسات كجزء عضوي من العنف المذهبي المتأصل في كتب التراث، والذي أسهم في تأطير الاضطرابات على مستوى الهوية الدينية وكرس المخاوف المتبادلة وفقدان الثقة بين السنّة والشيعة.
إن الطامة الكبرى التي يعاني منها طرفا الإسلام السُنّي والشيعي، تتمثل في تغييب التفسير العقلاني للدين وسيطرة التخريجات الفقهية التي تكفر الخصوم، ما أدى إلى طغيان اليقينيات الإطلاقية ومحاصرة التعددية التي اغتنى بها الإسلام، حيث يصيب التطرف المذهبي خريطة الجماعات الدينية بالعجز ويجعل المسلم الشيعي أو السُنّي يتسلح بإيمان راسخ بتفوقه المذهبي.
يعيش المسلمون في العالم العربي على وقع ماضٍ تراثي واحترابي قابض، عززته التوترات السياسية في المنطقة. ينظرون إلى المستقبل بعيون الماضي الكارثي. تحضر معهم المعارك المذهبية في مدياتها التاريخية، مع إحالة مفرطة على الأصل والموروث الديني، ما أدى إلى غربة يعيشها الإسلام العربي في مداره الحضاري، عن الزمان وعن مواكبة التطورات الهائلة التي تشهدها الحضارات والديانات التوحيدية الأخرى.
ويقلّص توحيد الوعي الإسلامي، أو ما يسمّيه محمد أركون «التراث الإسلامي الكليّ» الانقسامات المذهبية المتفاقمة بين السُنّة والشيعة ولكنه لا يمكن أن يتحقق إلاّ من خلال ثلاثة مسارات رئيسة: إجراء إصلاح ديني يخفف من التجمد المذهبي واستعلاء المذاهب، تجفيف منابع الكره ورفض الآخر التي تراكمت على المستويين العقدي والمجتمعي والتاريخي، الاسراع في الاصلاح السياسي وضرورة إدراك الأنظمة العربية أن عليها التعامل مع الفسيفساء الدينية من موقع الحياد الإيجابي ومنح الحقوق السياسية والمدنية لمكوِّنات التعددية من دون النظر إليها من موقع الانتماء المذهبي.