تتسارع وتيرة الأحداث على الحدود الشرقية للبنان، بدءاً بجرود القاع وعرسال امتداداً إلى الحدود الشمالية بين عكار ومحافظة حمص السورية، وصولاً إلى شبعا والعرقوب وتماس قرى جبل الشيخ اللبنانية والسورية. ترسم الأحداث على طول أكثر من 375 كلم بين لبنان وسوريا مشهداً مأزوماً في العام الجديد
في الأشهر الثلاثة الماضية، حوّل تنظيم «داعش» جزءاً كبيراً من اهتمامه في اتجاه الوسط السوري، أي محافظة حمص ومنطقتي القلمون الشرقي والأصفر جنوبي غربي البادية السورية، وكذلك في اتجاه الحدود اللبنانية، عبر التوسّع في جبال القلمون الغربي على حساب باقي المجموعات المسلّحة. وعلى رغم الحديث عن ضربات يومية يتعرّض لها التنظيم من غارات طائرات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في الشرق السوري ووسط العراق وغربيّه، فإن التنظيم عمل في المرحلة الماضية على توسيع سيطرته إلى عدّة نقاط استراتيجية في شرقي محافظة حمص، تمكّنه في مرحلة لاحقة من الوقوف على مشارف مدينة حمص، وتحقيق تحوّلات جديّة على الحدود اللبنانية.
وفي وقت تزداد ضراوة المعارك مع التنظيم في العراق والحديث عن عملية كبيرة ضده في مدينة الموصل والمعارك العنيفة مع الجيش السوري في مدينة دير الزور ومحيط مطارها العسكري، يسعى «داعش» الى توسيع رقعة الاشتباك والتماس مع الجيش السوري وحزب الله في الغرب (ريف حمص الشرقي)، بالتوازي مع سياسة الترغيب والترهيب التي يتبعها لابتلاع مجموعات المعارضة المسلحة الأخرى.
وبعيداً عن حرب التهويل الإعلامي التي ينتهجها «داعش»، خصوصاً في ما خصّ التأثير على لبنان عبر قضيّة العسكريين المختطفين، تتقاطع سيطرته الجديدة نسبياً على أغلبية جرود القلمون وعرسال بعد انكفاء إرهابيي «جبهة النصرة» و«الجيش الحر»، مع نقل التنظيم جزءاً من قواته إلى محيط بلدتي القريتين والفرقلس جنوب شرق مدينة حمص وتنفيذه عمليات ضدّ مواقع الجيش السوري في المدينتين، انطلاقاً من مدينة السخنة في الشرق. وتفصل جرود القاع اللبنانية وامتدادها إلى جبال حسياء في جنوب مدينة القصير السورية، منطقتي القريتين ومهين عن سهل القاع وخلفه مدينة الهرمل، وتفصل حقول جندر حتى شنشار بين الفرقلس ومدينة القصير، إضافة إلى خطّ ريّان ــ فيروزة ــ زيدل الذي يفصل مدينة حمص عن الفرقلس والشرق.
العودة إلى القصير
وخلاصة القول، على ما يؤكّد أكثر من مصدر أمني لبناني وسوري، إضافة إلى مسؤولين بارزين في تيار المستقبل، فإن «داعش يسعى عبر تحديد نقاط انطلاق في شرقي حمص، إلى الإعداد في المرحلة المقبلة لمهاجمة مدينة القصير السورية، مستفيداً من مبايعة عدّة كتائب محلية له، ومن قواتٍ إضافية قام بإرسالها مؤخراً لبناء قواعد انطلاق». وتشير مصادر سورية لـ«الأخبار» إلى أن التنظيم «لا ينفكّ يهاجم نقاطاً للجيش السوري في جبال حسياء، ويهاجم مواقع جيش الإسلام والكتيبة الخضراء، وفي الوقت نفسه يكسب بيعات جديدة من قادة مجموعات مسلحة في المنطقة».
القصير لا تبدو
لقمة سائغة
والحفاظ عليها على رأس سلم الأولويات
تحركّات «داعش» الأخيرة تعيد الى الأذهان سبب قيام الجيش السوري وحزب الله بعملية خاطفة لتحرير مدينة القصير، قبل عام ونصف، إذ إن سيطرة مسلحي المعارضة السورية على هذه المدينة تفصل دمشق عن الساحل السوري عبر قطع أوتوستراد حمص ــ دمشق الدولي، كما تسمح بالامتداد إلى الشمال اللبناني والتوسع من الداخل السوري في اتجاه البحر، عبر السيطرة على منطقة الشريط المشترك من الحدود السورية ــ اللبنانية في الشمال، عبر القصير ــ وادي خالد ــ سهل البقيعة ثمّ عكار وطرابلس، وضمناً مدينة تلكلخ السورية. وبالتالي، فإن سيطرة «داعش» على القصير تسمح بتكرار السيناريو الذي أوقفته الحرب الاستباقية للقوات السورية وحزب الله. وبحسب معلومات أمنية لبنانية، فإن «عدداً كبيراً من المسلحين الفارّين من سوريا من قلعة الحصن إلى عكّار بايع داعش سرّاً»، ولم يلتحق هؤلاء بالقتال ضدّ الجيش اللبناني خلال المعارك الأخيرة في بحنّين والضنية، «بسبب حتمية الخسارة أمام الجيش في ذلك الحين». وتشير المصادر إلى أن «عدداً آخر من المسلحين بايع داعش في تلكلخ السورية، وأن الهدنة الهشّة في المدينة معرّضة للانتكاس في أي وقت».
غير أن القصير لا تبدو لقمة سائغة أمام أي تحوّل ميداني من هذا النوع. فالمدينة محصّنة جيداً وتحوّلت في العام الأخير مسرحاً للمناورات والتدريبات المشتركة بين القوات السورية وحزب الله، وهي في حسابات محور المقاومة نقطة بالغة الأهمية، وبالتالي، فإن الحفاظ عليها على رأس سلم الأولويات.
وفي وقت يستبعد فيه أكثر من مصدر أمني معني بملفّ الحدود الشرقية أي تحوّلات جذرية في المرحلة الحالية في منطقة جرود عرسال والقلمون، بسبب قسوة الظروف المناخية على طرفي القتال، مع أرجحية للجيش السوري وحزب الله بسبب خطوط الإمداد المؤمنة نسبياً، فإن الجيش اللبناني بات يولي هذه الجبهة اهتماماً كبيراً، خصوصاً مع حاجة المجموعات المسلحة في الجرود إلى السيطرة على قرى لبنانية، بغية تحقيق انتصار معنوي يستثمره التنظيم في البناء للمرحلة المقبلة في الداخل اللبناني، ولوجستي بكسب مساحة جديدة وغنائم. وتشير مصادر أمنية لبنانية إلى أنه «بات لدى الجيش اللبناني ما يعادل فرقة من الجنود والقوات الخاصة على الحدود مع جرود عرسال وراس بعلبك والقاع»، فضلاً عن أن المعارك الجانبية الناشئة بين «داعش» وباقي الكتائب المسلحة في الجرود، مع احتمالات اندلاع معارك وشيكة مع «النصرة»، تبدو عاملاً مريحاً بالنسبة إلى الجيش وحزب الله في المرحلة الحالية.
ومؤخراً، حاول «داعش» الحصول على بيعة بعض قيادات الجماعات المسلحة في مدينة الزبداني السورية المحاصرة من قبل الجيش السوري، بالتوازي مع التوسّع في جرود القلمون جنوباً، في الجرود المقابلة لقرى زحلة والبقاع الأوسط. إلّا أن معلومات متقاطعة من مصادر سورية ولبنانية تؤكّد أن «تحرّك المسلحين في جنوبي القلمون غير ذي تأثير، لأن المنطقة محكومة بمعادلة طريق بيروت ــ دمشق، المحميّة جيداً من مئات المواقع والمعسكرات للجيش السوري وحلفائه»، لتبقى التحوّلات على الحدود الشرقية الجنوبية في شبعا وحاصبيا وراشيا محكومة بالتأثير الإسرائيلي ونيّة فتح جبهة جديّة مع حزب الله. وهذا بحثٌ آخر.