لم يطل خروج فايسبوك عن الشبكة. لكن تلك الساعات القليلة من ليلة الاثنين الماضي، بدت دهراً، بدت ثقباً أسود، ليلاً بلا قرار. ليلة الذعر الطويلة، في هذا المقلب من الأرض. كيف يمكن للعالم أن يعيش من دون فايسبوك وتوابعه (واتساب تحديداً الذي نعرف نحن اللبنانيين قبل سوانا طبيعته المتفجرة جدّاً، وميسنجر ساعي الغرام، ناهيك بـ إنستاغرام تلك النسخة الرقميّة عن «الجنّة»)؟ لحسن الحظ بقي لنا تلك الليلة تويتر الذي شهد هجرة جماعيّة، كونية، وصار مسرحاً للتشفّي وتبادل الأخبار الفايك أو الصحيحة. من كان يتخيّل قبل سنوات قليلة فقط، أن يصبح الكوكب ــــ ثلث سكانه على الأقل ــــ عاجزاً عن الوجود، عن التنفّس، من دون وسائل التواصل الاجتماعي؟ عاجزاً عن الحياة، عاجزاً عن «التواصل»، منقطعاً عن الزمان والمكان، مقطّع الأوصال، كما بعد حرب كونية فتاكة أبادت معظم البشرية، في مخيّلة هوليوديّة؟
هل هناك حياة خارج مواقع التواصل الاجتماعي؟ هذا السؤال قد يثير السخرية لدى جيل كامل ولد في حضن هذا العالم، وانتظم نفسياً وبيولوجيّاً وعقليّاً على نبضه، ويعيش داخل حدوده بكل جوارحه وعاداته وحاجاته، ولا يتخيّل كيف كانت العصور الحجريّة التي سبقته. لكن ذلك لا يغيّر شيئاً في الحقيقة التي وجدنا أنفسنا في مواجهتها مع انهيار المنصات الثلاث: لقد أحكم علينا مارك زوكربرغ الخناق، واعتقلتنا خوارزميّاته داخل قبّة زجاجيّة هائلة، مترابطة الجزر، متنامية المحتوى، مكتفية بنفسها، تختصر العالم الافتراضي. ثم فجأة انتبه الناس إلى أنّها فقاعة هشّة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، وعلى متنها كل «أصدقائنا» ــــ حتى الصداقة صار لها معنى آخر، ومذاق آخر ــــ وأهلنا، وأفراحنا وأتراحنا، وحيواناتنا الأليفة، ومواعيدنا، وقصص حبّنا، وإبداعاتنا المختلفة، ومصادر معلوماتنا وأغنياتنا وفيديواتنا ومشاريعنا ومستقبلنا. باختصار «حياتنا».
هذا الكوكب الافتراضي أوحى لمليارين وسبعمئة مليون بشريّ أن يسكنوه. أودعوه خصوصياتهم، أسرارهم، نزواتهم، حيواتهم الخفية والمعلنة، آراءهم وانتماءاتهم، أذواقهم، عاداتهم، سلعهم المفضّلة ونجومهم وأحلامهم… ثم، ذات ليلة ليس فيها ضوء قمر، أنطفأ كل شيء! كل ذلك اختفى فجأة، فاختفينا معه، أو بالأحرى عدنا عنوة إلى العالم الواقعي. نتواصل عبر الهاتف العادي، أو عبر الحمام الزاجل. ذلك الرسم الكاريكاتوري الذي انتشر على تويتر، يقول كل شيء. عجوزان في الفراش، الرجل يعانق برفق وحنان زوجته التي تتمتم كأنّها تخاطب نفسها: «يا بختي وقع فايسبوك!».
لم نعرف بعد الأسباب التقنية الحقيقية لهذا الانهيار الذي هزّ الكوكب، وشغل البنتاغون، وجمع لجنة الكونغرس الأميركي في شبه «محاكمة»، مع المديرة السابقة في فايسبوك (قسم حماية القيم المدنيّة) فرانسيس هوغن، في دور البطلة التي تفضح كل شيء، وزوكربرغ غيابياً في دور الشرير. «لقد فضّل الأرباح على السلامة» قالت. قول سديد وكلام مفيد، ينطبق على كل الكوارث التي شهدها العالم من نصف قرن: ألم تنبّهنا الفيلسوفة الألمانية حنّة آرنت التي شهدت في زمانها على نوع آخر من البربريّة أن «التقدّم والكارثة صنوان، أو وجهان لعملة واحدة»؟
لم يطل انفصال فايسبوك عن الشبكة. بعد ساعات ست تقريباً، هرعنا إلى هواتفنا، فإذا برسائل الواتس قد وصلت أو ذهبت، وإذا بفايس وإنستا يعودان تدريجاً إلى حالتهما الطبيعية. مبروك، الحمد لله على السلامة. لم تنهر الإمبراطوريّة إذاً هذه المرّة، ولم يخسر زوكربرغ إلا ستة أو سبعة مليارات (حسب المصدر) تبخّرت في وقت قياسي يشبه سرعة صعود فايسبوك و«تسارع التاريخ». لم يبق له سوى 120 مليار يؤاسي بها نفسه. ولم تتجاوز خسائر أسهم فايسبوك خمسة في المئة من قيمتها. بسيطة. لكنه تمرين مهم، هو الأوّل من نوعه، على الانهيار الأكبر. بروفا عامة عن انهيارات كثيرة مقبلة، في زمن «الكوارث الشاملة» التي تحدث عنها الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو.
درس فيريليو الكوارث (من تشرنوبيل إلى انهيار سوق الأسهم في الـ 2008) بصفتها النتيجة الحتميّة للتطور التقني. وكتب عن «الحادثة الأصليّة» («غاليليه»، 2005)، ثم «الحادثة التامة» («غاليليه»، 2011) التي هي تراكم حوادث كبرى، يكون لها تأثير شامل على المنظومة الاقتصادية في العالم. نظريته تنطبق تماماً على «فاجعة الاثنين» غير المكتملة: نعيش منذ عقود تسارعاً مذهلاً للتاريخ، وهذا «التقدم» (العلمي، التقني) لا مفرّ من أن ينهي العالم، ويحوّله إلى هلام. إن «التقدم نحو الكارثة» يتطلّب «وعياً جديداً تحلّ فيه المسؤوليّة مكان الفاعليّة» التي يفرضها التقدم التقني الهاذي. أليس هذا ما رددته فرانسيس هوغن على طريقتها يوم أمس؟
لا نعرف الكثير عن سبب الترنّح العابر لإمبراطورية زوكربرغ. لكننا نعرف أننا أمام نموذج تكنولوجي اقتصادي مهيمن على العالم، موازٍ للاستعمار الاقتصادي والسياسي. انهيار فايسبوك الذي تم تفاديه، كان ليكون مجازاً عن انهيار الإمبراطورية. الارتباطات والتشابكات كثيرة بين مختلف مكونات نظام الهيمنة… وفايسبوك إحدى أدواتها، يبدو أفقاً للحرية والتواصل وتكثيف الزمن، فيما هو أداة تجسس عملاقة، واغتصاب للخصوصيّة، ورقابة أيديولوجية، واستغلال متوحّش. من المفيد في هذا السياق (إعادة) اكتشاف فيلم جيف أورلوفسكي «خلف شاشات من دخان» The Social Dilemma. أول فكرة تبادرت إلى أذهان كثيرين ليلة الاثنين، كانت مشهد تداعي حلم الهيمنة الأميركي. الإمبراطورية التي حكمت العالم، تغرق شبراً إضافياً في المستنقع الذي أنتجته بيديها!